ثقافة وفن

محمد عضيمة يكشف جوانب الحضارة اليابانية وأصالتها … من المستغرب في اليابان أن يكون المسيحي عربياً! … ماذا قدمت الدبلوماسيات العربية والجامعات من أجل التمازج الثقافي الذي نفقده؟!

| إسماعيل مروة

على الرغم من مكانتها وتأثيرها وهيمنتها التقانية على مستوى العالم، إلا أنها لا تزال مجهولة في تفاصيلها الحميمة، اليابان قد لا نعرف عنها الكثير، وعندما يتحدث حتى النخبة عن اليابان، يتحدثون عن الانبهار بالدولة المعجزة التي صارت مختلفة بعد هزيمة الحرب العالمية، ولا ترتبط صورتها إلا بمأساة ناغازاكي وهيروشيما، وبعضنا يظن أن اليابان ما تزال تبكي هذه المأساة الكبيرة حقاً، ولكن العارفين أظهروا أن اليابان تجاوزت مأساتها، ونحن وحدنا لا نزال نبكي جرائم القنبلة النووية.. ماذا نعرف عن اليابان؟ ماذا تعرف نخبنا عن اليابان؟ كنت أظن أن الإعلام ووسائل الاتصال يمكن أن تخدم في هذا المجال، ولكن الأديب الأستاذ محمد عضيمة في كتابه الجديد (حكايات المعبد الياباني) الصادر في دمشق عن دار التكوين منذ أيام في تباشير 2016 يقول كلاماً آخر، ويكشف جوانب مهمة للغاية في ميدان معرفة اليابان وإنسانها.

حكايات سيرة ومعبد
عندما كنت أقلب الكتاب بين يدي رآه صديق فقال: ماذا عن المعبد الياباني؟ هل هذا كتاب مترجم؟ وحين ركنت إلى نفسي أدركت أن عضيمة أوهم قارئه ببراعة، فبات لا يدري إن كان أمام كتاب مترجم أو مؤلف، ومع الصفحة الأولى يترك لنا عضيمة الحرية في اختيار الاسم الذي يناسب، ربما كانت اليابان التي عشقها معبداً، ربما كان نمط الحياة اليابانية يقترب من المعبد. لم يشأ أن يعنونه بالمذكرات والسيرة، وحسناً فعل، ولولا أن الكاتب اختار نموذج الرسالة في كتابته، لكان العمل فيه الكثير من القصصية ببعض التحوير والتغيير، هي رواية عضيمة، رواية شخص أمضى عقدين من زمن في اليابان، وتبادل مع اليابان حباً بحب.. وحين اختار العنوان برع في تنحية عين القارئ عمّا يلذ له أن يراه، ورسم لوحات لليابان نحن أحوج ما نكون إليها، فلا نقف عند ساعة وصول وعقبات وحياة ومعاناة، ولا نقف عند شوق مرضي للوطن، ولا نقف عند إحساس الكاتب بضرورة بتر ما علق به من وطنه.. إنها حقاً حكايات، هذه الحكايات تستحق منا الكثير من العناية لأنها تقدم اليابان للقارئ، فيخرج أحدنا من الصورة النمطية التي يعرفها عن هذا البلد العظيم.

أوراق مسافر غير اعتيادي
ليست رحلة قصيرة، وليست زيارة خاطفة، إنها حياة مسافر عجن باليابان وحياته، وعجنت الحياة اليابانية بروحه، وهذا ما دفعه في مقدمته للقول بعد استغراب العرب النهوض الياباني بعد الحرب العالمية «والغريب في نظري، أن الحالة ليست كذلك أبداً مع كثير من المثقفين العرب الذين يزورون هذا البلد أو ذاك، ثم يعودون ليكتبوا عن هذه الزيارة… وإذا بهم يكتبون أشياء لا علاقة لها بما شدوا أو سمعوا أو لمسوا، أي لا علاقة لها بتفاصيل الرحلة والرحيل، وكان يمكنهم كتابتها وهم في بيوتهم من دون أن يتكبدوا عناء السفر.. وإذا تكررت الدعوة والزيارة يتحول إلى متخصص بالشأن الياباني.. ولا يجيب انطلاقاً من أشياء ولو بسيطة لمسها في زياراته ومشاهداته، بل يعتمد على الكتب الغربية التي تتناول التجربة اليابانية!» ما أشار إليه صديقي عن بعد محمد عضيمة هو الحق الذي نقرؤه في كتب عديدين، أيام في آسيا، أيام في الصين، أيام في..! وهذا ما دفعني لقراءة الكتاب في جلسة واحدة طويلة متصلة، لأجد أن الكاتب بدأ بدرس أول، فها هو يتلقى الدرس ويمليه علينا، لينطلق في تفاصيل الحياة اليابانية: الدين، الطعام، المقدس، الهوية، الأرصفة، مفهوم الغربة، الأصالة، الحداثة والدين، العرب واليابان، إشارات المرور، القطارات، الحانات، بائعات الربيع «الهوى»، المدارس، التواليتات، التراث، الأسماء، الطبيعة، الحيوانات…» وغيرها من العناوين الجاذبة الصادمة.

الحياة الطبيعية وآليات التفكير
أهم ما جذبني إلى هذا الكتاب، إضافة إلى إخلاص محمد عضيمة لوطنيه السوري والياباني، ترجمة وتقديم كل ما يتعلق بالمجتمع الياباني إلى العربية، وقد سبق هذا الكتاب كتب عدة، إضافة إلى ذلك فقد عمد عضيمة إلى تفاصيل الحياة الطبيعية للشعب الياباني، وفي هذا خدمة لزائر اليابان العربي، ابتداء من معرفتهم بالعرب والأجانب ونظرتهم إلى الشعوب الآسيوية التي تشاركهم هذه الجزر، فهم ينظرون إلى أبناء جزرهم نظرة خاصة، فلا يرونهم من الأجانب أو الوافدين على العكس تماماً من النظرة العربية إلى العرب، وتنحصر نظرة اليابانيين إلى الأجانب للأوربيين والأميركيين والعرب، ولكن هذه النظرة قابلة للنقاش والحوار… وما يظنه العربي من أن العالم يحمل همّه ويفهمه هو وهم كما يرى عضيمة، فهم لا يعرفون شيئاً عن العرب وحضارتهم التي يتغنون بها!!
ونحن- العرب- بحاجة ماسة إلى تعريف العالم بنا وبعاداتنا وتقاليدنا وأطعمتنا، وقد صدمت كثيراً وأنا أقرأ لمن تجاوز العقدين من الزمن إقامة في اليابان، من أن اليابانيين يشدهون عندما يعلمون أن بين العرب أصالة لا وفادة من المسيحيين الكثيرين، فكما هي الصورة لدى عالم الشمال العربي مسلم وحسب، ولا يعنيهم أمره وأمر إسلامه وتراثه بحال من الأحوال! «ولكم حاول الصديق الدكتور مسعود ضاهر، في إحدى زياراته الطويلة إلى اليابان، وفي بعض مغامراتنا الليلية معاً، أن يقنع صاحبة البار وبعض الزبائن أنه عربي مسيحي. كان من المستحيل إقناعهم بذلك. عربي ومسيحي، لا، لا غير معقول! أخذ الجميع يضحك من هذه الطرافة، أو من هذا الجمع بين كلمتين متناقضتين في نظرهم. لا بل كان هناك بعض الطلاب والباحثين الذين حضروا ندواته، قد فوجئوا بأنه عربي مسيحي ويتكلم عن مشكلات النهضة العربية والإسلامية».
أليس حرياً بنا أن نتعرف إلى دقائق وتفاصيل الفكر الذي يحيط بنا؟! ماذا فعلت الدبلوماسيات العربية الكثيرة؟ ماذا قدمت من خدمات للمجتمع العربي والتعريف؟ بل ماذا قدمت الجامعات العربية من إيفادات متبادلة بين أبناء آسيا والمشرق العربي من أجل التمازج الثقافي؟ شهدت في دمشق عدداً من الطلاب الصينيين الذين اختصوا باللغة العربية، فهل عملنا على تأهيل هؤلاء؟!
إن خرجت من سورية إلى المحيط العربي وجدت من يظلم السوري!.
وفي سورية تجد السوري يظلم العربي الآخر!
وإن خرجت خارج الإطار العربي كان الظلم أكثر فداحة، وأذكر من أصدقائي الذين زاروا دول آسيا لم يتحدثوا لنا إلا عن الطعام المقزز، وعن شوارع البغاء المنتشرة! بل إن كثيراً من العرب يقصدون تلك البلدان لهذه الغاية فقط!
هذا الكتاب يعطيك دليلاً حضارياً، والمؤلف يوازن بين الحضارة اليابانية والغربية، ففي باريس أنت مضطر لدفع فاتورة من أجل قضاء حاجة، وقد تضطر لإلغائها بسبب القذارة! أما اليابان فأنت أمامك الخيارات لفعل ما تريد، ومن دون مقابل… وعندما أردنا أن نتحضر منذ عقود وزعنا دورات المياه المأجورة اقتداء بالغرب، حرصاً على المال، ولم نلجأ إلى استقاء تجربة النظافة اليابانية!
سعدت كثيراً بكتاب محمد عضيمة، وهنيئاً لسورية اعتزاز السوري بسوريته كما فعلت، وكذلك هنيئاً لليابان أن تمتلك على أرضها مثله، وهو يملك القدرة الكبيرة على تقديم المجتمع الياباني كما يجب.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن