من دفتر الوطن

إبداع الحياة

| حسن م. يوسف

عشية يوم السبت ما قبل الماضي خرجت من عرض فيلم «فانية وتتبدد» للمخرج الكبير نجدة إسماعيل أنزور وأنا أفكر ببطل آخر لم أره على الشاشة، هو دمشق. فرغم المخاطر المحتملة احتشد آلاف الدمشقيين لحضور عرض الفيلم وملؤوا كلاً من صالة الأوبرا الكبرى وصالة الدراما، وهذا ما زادني إعجاباً بشعبنا الذي لا يكف لحظة واحدة عن إبداع الحياة، الأمر الذي جعل الكلمات التي كتبها مارك توين عن دمشق عندما زارها في عام 1867 تشتعل في ذاكرتي: «شهدت دمشق كل ما رآه العالم من أحداث في الماضي، وهي ما تزال تعيش. شهدت من عليائها العظام النخرة لألف إمبراطورية، وسوف ترى مقابر ألف إمبراطورية أخرى، قبل أن تموت».
يمكن القول إن فيلم «فانية وتتبدد» الذي أنتجته المؤسسة العامّة للسينما بالشراكة مع مؤسسة أنزور، عن فكرة لهالة دياب وسيناريو للكاتبة ديانا كمال الدين، هو أول معركة تخوضها السينما السورية مع (الفكر) الداعشي. يعتمد الفيلم منذ لقطاته الأولى مبدأ الصدمة، فأول ما نراه هو سوق الجواري حيث نرى نخاساً في زي رجل دين يدعى «أبو محمد» –النجم زيناتي قدسية- يوزع السبايا على (المجاهدين)، تحت إشراف أمير الجماعة أبو الوليد -المتألق فايز قزق-.
تفرض المعلمة «ثريا» –النجمة رنا شميس التي لعبت دور حياتها- النقاب على ابنتها الطفلة الجميلة «نور» -إيمي فرح- متعللة بالشرع في حين هدفها المضمر هو حمايتها من عيون الدواعش، إلا أن الحذر لا ينفع، إذ أثناء عودة الطفلة مع أمها من المدرسة تمران ببقعة فيها بقايا مطر فترفع الطفلة فستانها ويرى رجليها أمير التنظيم أبو الوليد المصاب بانحراف جنسي- عقلي يدعى Sexual fetishism يصل المصاب به إلى حالة الإثارة عن طريق التركيز الجنسي على جزء من الجسم البشري أو على كائن غير حي، وهكذا يهوس الأمير برجلي نور فيعمد لاختطافها ويقرر أن يتزوّجها، الأمر الذي يجعل أبو دجانة مرافق الأمير – النجم المتألق مجد فضة– يستيقظ من غفلته، فيستغل الخلاف بين مقاتلي جبهة النصرة وأبي الوليد على اقتسام الغنائم ويدخلهم إلى مقره، كما ينسق مع شقيق الطفلة مازن –المجتهد علي بوشناق- المقاتل في صفوف الجيش الذي يستغل ظروف الخلاف بين الإرهابيين ليوجه لهم ضربة مزدوجة تنتهي بدخول الجيش إلى مقرّ داعش وتحرير الطفلة نور قبل أن يفتك بها الأمير المنحرف.
يجسد الفيلم الممارسات الظلامية للدواعش، بدءاً من تعذيب النساء في السجون، مروراً بحرق الكتب، والمتاجرة بالرقيق، كما يتناول معاناة المواطنين السوريين المستنيرين وما يتعرض له أتباع الديانات الأخرى من اضطهاد ومضايقات.
ينتهي الفيلم بفرار أمير التنظيم متنكراً في ثياب نسائية، آخذاً معه ما سبق أن حضَّرَه من مال وجوازات سفر مزوّرة وحلي منهوبة. وفي مشهد ختامي بالغ الدلالة يأخذ أنزور لقطة كبيرة لعيني أمير داعش المندس بين الناس الذين يحتفلون بانتصار الجيش وسيطرته على المدينة.
وقد رأى أحد النقاد أن تمكن «الأمير» من الفرار وبقائه حراً في النهاية يتناقض مع عنوان الفيلم، وهذه ملاحظة في غير محلها لأن أنزور لم يعنون فيلمه «فنيت وتبددت»، وفي ذلك إشارة ذكية إلى أن رأس الفكر الظلامي ما يزال طليقاً وخطره ما يزال محدقاً.
زعم أحد «الإعلاميين المعارضين» أن «أبطال الفيلم كلهم «ينتمون إلى البيئة الساحلية» الموالية… كما سمح لنفسه بنقل مكان ولادة أنزور من حلب إلى طرطوس! وهذا الكذب المفضوح يثبت أن الفيلم قد مس عصباً حساساً لدى الظلاميين المقنعون منهم والسافرون.
ليست هذه هي المرة الأولى التي يتصدى فيها أنزور لنقد الفكر الظلامي فقد بدأ مشروعه هذا منذ ما يزيد على عشرة أعوام في مسلسلات «الحور العين» و«المارقون» و«ما ملكت أيمانكم» وقد نقل مؤخراً معركته من التلفزيون إلى السينما بفيلم «ملك الرمال». وها هو يخوض معركته السينمائية الثانية و… ينتصر.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن