قضايا وآراء

جنيف وكسر الاحتمالات

| مازن بلال

تم تعليق المفاوضات في جنيف رغم أنها لم تبدأ بشكل عملي، فهي كانت معلقة أصلا على جملة من الاحتمالات التي فرضها الوفد القادم من الرياض، واللافت أن حجم التصريحات السياسية الصادرة من موسكو كانت أهدأ من المعتاد، وحتى بعد أن قام ستيفان دي ميستورا بوقف التفاوض، فإن الاتهامات كانت اعتيادية ولم تتسم بالحدة نفسها، رغم أن ما حدث ظهر وفق إيقاع عسكري في الريف الشمالي لمدينة حلب، فقراءة التطورات وصولاً إلى إعلان دي ميستورا يوضح درجة الاستنزاف السياسي التي شهدتها الاجتماعات التحضيرية قبل جنيف.
في مقابل ذلك فإن حدثين أساسيين أوضحا الحد الفاصل في عملية التفاوض، فأولاً جولة جون كيري، وزير الخارجية الأميركي، الخليجية، التي أوضحت أن واشنطن وضعت حداً لضغوطها تجاه التفاوض، فذهاب الوفد المنبثق عن مؤتمر الرياض إلى جنيف كان استيعاباً للدبلوماسية الأميركية؛ أكثر من كونه استجابة للضغوط التي مارسها كيري، وظهر هذا «الاستيعاب» في استنفاد الوقت المخصص للتفاوض، ولم تكن المفاجأة في تعليق التفاوض، بل في احتراق الكثير من أوراق طرف واحد من المعارضة بعد معارك ريف حلب.
الحدث الثاني كان زيارة جو بايدن، نائب الرئيس الأميركي، إلى تركيا التي رافقها الكثير من الجدل، فالولايات المتحدة الحريصة على خط تحالفها مع بعض دول الشرق الأوسط؛ مقتنعة أصلا بأن التحولات السورية هي تغيرات أيضاً على صعيد كل علاقاتها في الشرق الأوسط، وهو ما جعل كل التحركات الدبلوماسية بين واشنطن والمنطقة لتبادل «الطمأنات». فنظرة أي إدارة أميركية قادمة ستكون أوسع من الحالة الكلاسيكية في ظل عدم التوازن في القوى، ويبدو أن التباينات بين واشنطن وأنقرة في زيارة بايدن الأخيرة ارتبطت بهذا الموضوع تحديداً، لأنه مع بقاء الأزمة السورية فلن تتضح ملامح أي توازن جديد، بل ربما على العكس فإن رسم حدود القوة الإيرانية، أو حتى الحضور الروسي في سورية، لا يمكن أن يحدث في ظل التصادم بل لابد من تفاهمات روسية – أميركية لضبط إيقاع التوازن القادم.
واتضح في جنيف أن الولايات المتحدة مقتنعة بأن «تآكل» القوى الإقليمية يبدو ضرورياً لرسم توازنات جديدة، فما حدث رسم سيناريو مختلفاً بدت فيه ساحة المعارك أقوى من أي إيقاع سياسي، وظهرت واشنطن وموسكو في موقعين يشبهان إلى حد كبير ما كان يحدث خلال الحرب الباردة، فهما يرسمان الحدود الفاصلة لأي مواجهة بينهما، ويتركان للتوازنات الإقليمية مساراً آخر، في حين تضيع التفاصيل التي تثيرها الحملات الإعلامية فور انتهاء الحدث، فالميدان السوري لم ينتظر انتهاء الحدث السوري، وكان فك حصار نبل والزهراء جزءاً من الغطاء الإستراتيجي لعمليات التفاوض القادمة، فالمساحة السياسية القادمة لسورية ستنشأ من دون تضخم للقوى للإقليمية، أو هذا ما تريده موسكو على الأقل، في حين ترى واشنطن ضرورة ضبط القوة حتى لحلفائها بما فيهم السعودية وتركيا.
ربما على القوى السياسية السورية قراءة ما قامت روسيا به من كسر الاحتمالات، فهي استبعدت ربط الميدان بالتفاوض، وكانت سابقاً وبالتوافق مع واشنطن تجاوزت احتمالات انهيار الدولة عبر استبعاد كل ما يؤثر عليها من عملية التفاوض، فنجاة سورية كدولة ليس هدفاً بالنسبة لواشنطن بل ضرورة لإعادة رسم المنطقة وفق الاحتمالات القادمة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن