ثقافة وفن

فائز سلامة صعلوك لبناني سوري تحدى الرؤساء والاستعمار

| شمس الدين العجلاني

لم تتناول سيرة حياته وسائل الإعلام، ولم تسلط الأضواء على أدبه وشعره وأفكاره أو تراثه اللهم سوى كتاب جورج عيسى: «فائز سلامة المعروف بشاعر الصعاليك – منشورات اتحاد الكتاب العرب- دمشق 2001» ومقاله لعبد عبدالغني العطري في كتابه: «إعلام ومبدعون- دار البشائر- دمشق 1991» ولا أعتقد عدا ذلك، أنه كتب عن هذه الظاهرة الغريبة الطريفة المهمة في حياتنا الأدبية والسياسية التي لم تتكرر بعد حتى الآن والتي اسمها فائز سلامة.
هو الشاعر والصحفي والأديب والسياسي، الذي تصدى للفساد في المجتمع السوري وهجا رؤساء الجمهورية والمستعمر الفرنسي، وكان هجاؤه لاذعاً وقاسياً وجارحاً، ولم يهادن أحداً من الفاسدين على الرغم من شظف العيش وقسوة الحياة والأيام عليه.
ومن خلال الغوص والبحث في الجرائد والمجلات المتاحة خلال فترة الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي وما كتبة عيسى والعطري وما احتوته أوراقي القديمة نقرأ:

سيرة حياة صعلوك
عائلة سلامة عائلة عريقة منتشرة في جميع أنحاء الوطن العربي ومنهم المسلمون ومنهم المسيحيون، وكذلك حال عائلة فائز سلامة.
ولد الأديب والصحفي فائز سلامة عام 1895م في لبنان في قرية اسمها «قيتولة»، والده هو «غسطين» وله من الأشقاء والشقيقات سبعة، تلقى سلامة تعليمه الابتدائي، والثانوي في لبنان بمنطقة «جزين»، ثم تعلم اللغة الفرنسية في مدارس الإرساليات الكاثوليكية ولم يتابع دراسته العليا، فقد درس في معهد الحقوق خلال العام الدراسي (1926- 1927) ولكن حالت ظروفه القاسية من دون الاستمرار بالدراسة، فترك الدراسة في المعهد، وعندما حاول العودة إليه بعد سنتين رفض طلبه.
تنقل الشاعر في الإقامة بين سورية ولبنان، حيث قدم إلى دمشق بعد وفاة والده عام 1919م وأقام فيها مع والدته وعدد من إخوته، وفي عام 1922م حصل هو وعائلته على الجنسية السورية وأعلن إسلامه وغيّر اسمه فأصبح (محمد أفندي بن سلامة)، ولم يعرف سبب اعتناقه الإسلام هل عن قناعة أم لسبب آخر؟ ولم يشر سلامة إلى ذلك في كتاباته أو أشعاره ولم يحدث أصدقاءه عن سبب اعتناقه الإسلام، وأسرة «غسطين سلامة» جزء منها بقي على الديانة المسيحية والجزء الآخر على الديانة الإسلامية..
منذ طفولته أولع سلامة بالقراءة والكتابة، ولإتقانه اللغة الفرنسية بشكل جيد عمل في بادئ الأمر ترجماناً في عدد من الصحف الدمشقية، وكتب في العديد من الجرائد آنذاك منها: «ألف باء، والأيام، والقبس، والجزيرة، والمضحك المبكي، والأردن..» وعندما اشتد ساعده أصدر جريدة «العالم» وكان ذلك عام 1925م، وعطلت هذه الجريدة عده مرات من المحتل الفرنسي وصودرت أعدادها إلى أن توقفت عن الصدور بعد فترة من الزمن. فأصدر جريدته الثانية عام 1934م «الدفاع» التي استمرت بالصدور لحين وفاته.
عاش سلامة حياة اتسمت بالبؤس والكفاح، كافح خلالها لاكتساب لقمة عيشه وإعالة أمه وإخوته، كما كافح ضد الوجود الفرنسي بوطنه، طورد واعتقل عدة مرات من المحتل الفرنسي نتيجة مواقفه الوطنية وهجائه القاسي للسلطات الفرنسية.
لم ينتسب إلى أي حزب سياسي طوال حياته ولكنه كان متعاطفاً مع الكتلة الوطنية، وعرف في جميع الأوساط الدمشقية أنه عروبي ووطني. توفي سلامة في دمشق ودفن في قريته «قيتولة» في لبنان عام 1941م عن عمر يناهز سته وأربعين عاماً قبل أن ترى عيناه جلاء المستعمر عن أرض سورية.

أخر الصعاليك
قبل مئات السنين انتهى عصر الصعاليك، الذي التصق بفئه من الشعراء الفطاحل، هذه الظاهرة الغريبة والطريفة والمهمة في حياتنا الأدبية والاجتماعية.
والصعلوك اسم يطلق على جماعة من العرب في عصر ما قبل الإسلام عاشوا وأطلقوا حركتهم في الجزيرة العربية ويعودون لقبائل مختلفة، كانوا لا يعترفون بسلطة القبيلة وواجباتها، فطردوا من قبائلهم. ومعظم أفراد هذه الجماعة، من الشعراء المجيدين وقصائدهم تعدّ من عيون الشعر العربي. وبالرجوع لمعجم لسان العرب نقرأ أن الصعلوك هو: «الفقير الذي لا مال له»، وزاد الأزهري: «وقد تصعلك الرجل أي افتقر»، وشوقي ضيف شرح معنى الصعلوك بأنه الفقير المعدم الذي لا يملك المال الذي يساعده على العيش.
امتهن الصعاليك في ذاك الزمن غزو القبائل بقصد الأخذ من الأغنياء وإعطاء المنبوذين أو الفقراء، وعاشوا حياة ثورية تحارب الفقر والاضطهاد وتسعى للتحرر في شكله المتمرد.
واشتهر في ذاك الوقت كل من الشعراء، الشنفرى، تأبط شراً، عروة بن الورد، الحارث بن ظالم المري، السليك بن السلكة.
ويقولون إن فائز سلامه عاد وأحيا ظاهرة الشعراء الصعاليك فكان شاعرهم في القرن العشرين.

الصعلوك سلامة
في البدء نقول إن سلامة كان يعتز بأنه ينتمي إلى فئة الشعراء الصعاليك:
نحن الصعاليك ما خارت عزائمنا… من سيف جنكيز أو من رمح جساس
لم يهادن، لم يسكت عن الغلط، عن الفساد، عن التواطؤ مع المحتل الفرنسي، لم يسكت عن مواجهة الاستبداد والفساد، لم يسكت أمام باطل، ولم يهادن في الحق، اتخذ من الشعر والصحافة موقعه الذي أمن أنه يمارس من خلاله نضاله لبناء وطن الحب والعشق… هكذا كان فائز سلامة قلمه وجعبته وحلمه وحياته الشعر والقلم.
لذا كان سيفاً حاداً في وجه كل من اعتقد أنه يسير خارج حدود الوطن برغم أنه ضاقت به سبل العيش:
رمضان عند الناس شهر واحد– لكن عمري كله رمضان
أحسبت يا رمضان صمتك طائعاً– ما صمت لو ظفرت يدي بغداء
أسعى إلى رزقي فيدبر هارباً– وأراه أحياناً يجد ورائي
وتقسو على الشاعر الأيام أكثر وأكثر فيتألم ويصرخ:
جاء الشتاء ولا ثوب أرد به برد الشتاء ولا فحم ولا حطب
وليس في غرفتي نار تدفئني غير التي في ضلوعي كلها لهب
عجبت والله من نارٍ تلازمني وليس يطفئها دمعي، ويا عجب!
ورغم كل شظف الحياة لم يحاول سلامة التقرب من الأعيان أو الساسة أو أصحاب المراكز والكراسي فهو لم يهادن كل ما رأه «حسب قناعته» من فساد الرؤساء والمتملقين للمحتل والمحتل الفرنسي بذاته، لذا فتح النار على الرئيس السوري محمد علي العابد ومن ثم على الرئيس الشيخ تاج الدين الحسني اللذين هجاهما أشد الهجاء حيث نظم في كلٍ منهما، وهما على سدة الحكم، مجموعة من القصائد بعنوان «الشاميات التاجيات» أو «المعلقات العشر» في هجاء الرئيس الحسني، و«العابدية– الجمهورية» في هجاء الرئيس العابد.
هو القائل: باسم القضية باعونا بلا ثمن– وأحرزوا الراتب الشهري والرتبا
ماذا يريدون منا غير ما أخذوا– لا فضة.. عندنا أبقوا ولا ذهباً
كان هجاء سلامة يطول الكبار قبل الصغار، بقسوة لم نعهدها، فهجاؤه لاذعٌ ومرٌ ولو أرادوا مقاضاته لدى المحاكم لنالوا منه. ومع ذلك حين قالوا له: «إننا نعجب منك، كيف أنت حلو اللسان، محتشم القول، ولكنك مرّ القلم، هجّاء، وهدام؟» فأجابهم: «وهل من يلعن الشيطان، يدعى هجاء؟».

مع الرئيس العابد
هو أول رئيس لسورية ينتخب تحت قبة البرلمان السوري «بغض النظر عن المقولة التي تشير إلى أنه كان حلاً وسطاً في أزمة سياسية كانت قائمة بين المحتل الفرنسي والوطنيين» ولكن ممارسات الرئيس العابد لم تنل رضا الشاعر سلامة فأصدر كتابه «العابدية– الجمهورية» ضمنه مجموعة قصائد هجاء لاذعة بالرئيس العابد.

مع الرئيس الحسني
تذكر صفحات التاريخ أن الرئيس السوري الشيخ تاج الدين الحسني كان من صنيعة المحتل الفرنسي وبالتالي كان من أكثر الناس تنفيذاً لرغباتهم، لذا لم يسكت شاعرنا «سلامة» عن ممارسات الرئيس الحسني ودأب على مهاجمة الشيخ تاج وهجاه هجاء مراً ومقذعاً، يقع تحت طائلة الذم والقدح وأصدر كتابه «الشاميات التاجيات أو المعلقات العشر» ضمنه مجموعة قصائد الهجاء بالرئيس الحسني ونشره عام 1931م وقد صاغه على طريقة الشيخ أبي أحمد الفراهيدي «وهو عالم اللغة والنحو والعروض والموسيقا وكان شاعراً أيضاً» وضم هذا الكتاب إحدى عشرة قصيدة، ونشره باسم مستعار؟

تراثه الأدبي
على الرغم من أن سلامة لم يعش طويلاً فقد ترك لنا تراثاً كبيراً ومهماً ومنوعاً بين الشعر والسياسة والمقالة، فله مجموعة كبيرة من القصائد نشرت في الصحف السورية، نشر منها في كتاب جورج عيسى: «فائز سلامة.. المعروف بشاعر الصعاليك»، وله عدد من المؤلفات المختلفة الموضوعات، منها: «أعلام العرب في السياسة والأدب»- مطبعة ابن زيدون- دمشق 1935، وهو يتضمن سيرة حياة 82 شخصية سياسية وعلمية وأدبية، وله كتاب «الشاميات التاجيات أو المعلقات العشر»، و»العابدية الجمهورية» و«البستان» وهو عبارة عن مجموعة من المقالات السياسية والاجتماعية، التي سبق أن نشرها في جريدة «الدفاع»، و«المقامات الشامية»، وله عدد من المقالات ذات الطابع السياسي والاجتماعي نشرت في الصحف والمجلات، وله العديد من القصائد والمخطوطات لم تنشر بعد.

الرحيل
في شهر أيلول من عام 1941م رحل فائز سلامة مبكراً وهو يناهز من العمر ستة وأربعين عاماً، ولكن خلال سنوات عمره القليلة استطاع أن يخط اسمه بماء الذهب في صفحات الأدب والشعر والسياسة والصعلكة فرثاه الشاعر الكبير «أحمد الصافي النجفي»:
لك يا فائز بقلبي مآتم لم تطق وصفها الدموع السواجم
كم أردت البكاء عليك ولكن منعتني ذكراك والثغر باسم
لا يوفي شعري رثاءك يامن كنت شعراً يفوق ما أنا ناظم
كما رثاه الأديب نسيب الاختيار: «هذا إنسان مات، كما تموت كل عبقريةٍ في هذه البلاد، وفي المقابر فحسب نعرف رجالنا، فحمداً وشكراً للموت، الذي لولاه لما عرفنا قدر عباقرتنا، دعوه يرقدُ هادئاً لأولِ مرةٍ، فقد كان يطل عليكم وفي القلب عاصفةٌ، وفي الروح ثورة، ومن هذا فقد كان يستقبلكم، والثغر مفتر، والوجه طليق، كنتم ترون فيه ما ليس فيكم، لقد كانت دنياه غير دنياكم».
رحيله كان فاجعة أصابت أصدقاءه وأهله والأدباء والشعراء والصحفيين، فهو كان شخصية طريفة ذكية محبوبة لدى جميع الأوساط السورية واللبنانية عدا بعض السياسيين والمنافقين وتجار الوطنية..

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن