ثقافة وفن

جهاد جديد يحكي سيرة جيل وبلد … «العطش» رواية تتكامل خيوطها بالنسيج الوطني والمجتمعي .. يغمس قلمه وشخصياته في الرغبات ثم ينحاز إلى العطش والحرمان!

| إسماعيل مروة

«العطش» رواية صدرت منذ أيام عن «دار التكوين» بدمشق للصديق جهاد جديد، وكنت قد وقفت سابقاً مع مذكرات الأستاذ جهاد السياسية التي تتناول حياته السياسية التي شارك فيها من خلال انخراطه في العمل السياسي والفكري الفعال في الحزب الاجتماعي القومي السوري، ولم أكن أعلم مشاركته الأدبية حتى وصلتني هذه الرواية، وللحق فإن الرواية كانت شائقة ومتميزة، واستطاعت أن تجذبني إليها لأتمها في جلسة واحدة، وإن كان لهذه الخصيصة أن تذكر، فإنها تذكر دلالة على البراعة والتشويق، والتمكن من عناصر الفن الروائي الذي يحتاج الكثير من الإتقان ليكون جاذباً وقادراً على توصيل الأفكار الفنية المتلاطمة في ذهن مشارك في الحياة السياسية وبفعالية، وكذلك كانت العطش، فيلماً مكتوباً أخذني من خلاله جهاد جديد إلى عوالم فيها من القدرة على التخييل ما فيها.

العطش
سألت عن المغزى من اختيار هذا العنوان، لأجد بعد الانتهاء من قراءة العمل أن العطش سمة ملازمة لكل ما في الرواية، فالأبطال عطاش للحياة والحرية والحب، من نديمة إلى نجمة إلى ليلى وهدى ومنى، فكل الشخصيات يتملكها العطش للحياة، ولا ترتوي، وحين تأتيها الفرصة للارتواء تجد عائقاً وصاداً يمنع الفرد من أن يرتوي مما يحب ويعشق، والمجتمع فيه عطش سياسي وفكري ومجتمعي واقتصادي، وقد استطاع جديد أن يقدم تفصيلات لم يقدمها الروائيون الآخرون، وما قدّمه في مجال الريجي وصناعة التبغ يعطي صورة واضحة تضاهي ما قدمه حنا مينة في المصابيح الزرق، وخاصة عندما دخل في تفاصيل الصناعة وخفايا الزراعة وما شابه.. كذلك قدّم في روايته العطش إلى الحكم الوطني بعد الاستقلال، والعطش إلى الآراء والأفكار التي تستطيع تغيير المجتمع من مجتمع بدائي إلى مجتمع عصري… ومما يحمد أن الروائي في عمله القائم على القصّ والتخييل لم يقدم ما قدمه بناء على حكايات الجدات والآباء، بل تناول حقبة تاريخية عاشها وشارك فيها، وشهد كل تفاصيلها، ابتداء من منطقة الساحل السوري وصولاً إلى حلب ودمشق، ولأنه مشارك فاعل في الحياة السياسية منذ ذلك الوقت، فقد استطاع أن يقدم صورة متكاملة عن الحياة السياسية، سواء كانت تلك الواقعة على الأرض أو تلك المتخيلة التي يحلم بها السوري بعد الاستقلال.

الحياة الاجتماعية والأفكار
قدم الروائي بيئة حقيقية تجمع بين الواقع والمتخيل، فالأرضية التي اختارها سواء في الجغرافية أو الزمن، ساعدته على تقديم شخصيات ربما التقاها وسمعها، واكتفى بالتخييل في حركة هذه الشخصيات، وهذا ما فعله مع الشخصيات التي أعطت اللون المجتمعي، وأزعم أنها كلها شخصيات حقيقية التقاها وسمعها وحاورها، ولكنه قدّمها في قالب من التخييل القصصي الذي جعل الشخصية أكثر إقناعاً وبريقاً، ومن خلال الجمع بين السياسي والاجتماعي تمكن الكاتب من تركيز آرائه بين الإدانة من دون استعمال لفظ الإدانة، والموافقة على فعل ما.. وما جلسة نديمة مع قهوتها على الشرفة واستعراضها لسيرة حياتها وسقوطها، تارة مع الخياط، وأخرى مع الفرنسي، مع ما في المشهدية من روعة وتشويق وإقناع إلا جلسة اعتراف لا ينغصها إلا إصرار نديمة بعد الرقص والشراب والقبل والرضاب والاحتضان، إصرارها على أنها لم تلوث شرفها!
«ما يخفف من قهري وندمي هو أنني توقفت عند حدود تلك الزلات، وأنني لم أفرط بعفتي ولم أدنس شرفي»!
وتتابع في المقطع ذاته:
«كل رجائي ألا تنزلق ابنتي كما انزلقت، وألا تشرب من الكأس التي شربت»!
ما بينها وبين ابنتها ضاعت حدود العفة وتدنيس الشرف، فهل ترى السيدة نديمة التي اشتق اسمها من الندم والنديم أنها لم تلوث شرفها حقاً؟! وهل يعرّف الكاتب التقدمي الشرف هذا التعريف؟! ما مفهوم الدنس والشرف؟ أم إن الكاتب يتكلم بمفهوم الأبطال، ليستطيع إكمال مسيرة الشخصية المشابهة المتممة نجمة ابنة نديمة بعد موت زوجها ابن السلوم؟
تصل نديمة ونجمة حدّ التطابق، وكل واحدة منهما نهلت ما تريد من الحياة، وغبّت من القبل، وأشبعت لهيب الجسد، لكنها لم تفعل ما يلوث شرفها، أي لم تمارس الجنس التام.. فالضابط الفرنسي الذي كان الآغا يستقبله، رقص وضم وشهق وشهقت وسحبها إلى الشرفة المعتمة، لكنها حافظت على عفتها، وربما كان الاعتراض على كلمة «عفة» تحديداً، فهي أكثر صرامة بالمعايير الأخلاقية التي لا يعترف بها الأدب.
أما ابنتها نجمة التي تمنت لها ألا تنحرف، وألا تنزلق بها القدم كما حصل معها، فقد حقق لها الكاتب ما أرادت، أحبت في طرابلس ومدرسة الراهبات، ثم عادت لتحب سيزار، وتصل معه مدىً طيباً في العشق، لكنه يغيب بمكيدة من والدها الآغا، ترتبط بالمحامي ابن السلوم البرجوازي أو الإقطاعي الذي يتفهم كل شيء ولا يعترض على شيء، وتتحول إلى أم لابنته الأولى من زوجته الراحلة، والذي يشرب معها نخب سيزار عندما يطلق سراحه!
فرنسيون كثر محتلون كانوا طيبين وضد بلادهم، لا أدري السبب إلا إذا كان سيزار أيضاً من اليسار نفسه الذي انتمت إليه الشخصيات السياسية! ويصل رامز إلى السيدة التي ما تزال جميلة، ويحصل بينهما مشهد يشابه ما حصل لنديمة مع الضابط الفرنسي، لكنها تبعده وتطرده، ومن ثم لا تجدي محاولاتها اللاحقة! أما الشاب رامز فعندما يريد تقف قناعاته بينه وبين التواصل مع المجتمع الراقي وشخصياته، وعندما يريد يقتنع بالعكس، ويمحضهم الود والحب.
أنا هنا لا أعترض على الكاتب، بل أسجل له نقطة بالغة الإيجابية، فالشخصيات من لحم ودم تتحرك أمامنا، والمبادئ لا يمكن أن تحكم الحياة الاعتيادية، لكن ما رأيته أنه كبح لجام قلمه في مواضع عديدة، فالسيدة نديمة كلما عارضت محاولات الخياط والضابط الفرنسي في القبل، أعطاها المؤلف مسوّغاً، فالآغا زوجها يقبل الأخريات وجعلها تتجاوز الأمر، وكذلك جعل الآغا يحثها على استقبال الضيوف والرقص والشرب إكراماً للانتخابات، هذا من جانب الأم، أما الابنة نجمة فقد وافق ابن السلوم على استثمار أمواله والعيش فيها رغم طوباويته، وهو يعلم أنها من أموال زراعة الحشيش، ووافقت أرملته على مبدأ الصداقة واستضافة الشباب ومرافقتهم إلى السينما والتحرش بهم وكشف الجسد أمامهم، واستدعاء رامز لاختيار ثياب لها في غرفتها!
كان من الأجمل أن يغمس الكاتب قلمه وشخصياته في الرغبات، وخاصة أن الشخصيات أوجدت المسوغات لذاتها، فلم أحجم عن ذلك؟ أظن أن المرحلة العمرية التي كتب فيها صديقي جهاد جديد هذه الرواية هي التي جعلته يقف عند حد، أظنه ليس مقتنعاً به!

وللحياة السياسية مكانها
تمور الرواية بالأحداث الحقيقية، وتغطي تقلبات منطقة الساحل في تلك الفترة، وسجل انتصار التوجه الوطني آنذاك بعدم الانفصال عن الدولة السورية، ولاسترجاع هذه المسألة اليوم دورها الكبير، وقد استطاع المؤلف أن يفضح الطبقة الإقطاعية وممارساتها من أجل السلطة والوصول إليها غير آبهة بعرف أو تقليد، دافعة إلى ذلك أبناءها وبناتها والزوجات، ومن ثم أعطى الحركات السياسية وتأسيس الأحزاب مثل القومي والبعث والشيوعي مكانة، فكانت الشخصيات الفاعلة من المنطقة في هذه الأحزاب حاضرة من زكي الأرسوزي إلى وهيب الفاضل، كما عقد المؤلف بذكاء صلات الوصل بين أبناء المنطقة والسلطة المركزية في دمشق وحلب، سواء في إظهار امتداد شبكة الفساد وزراعة الحشيش، أو في الأحزاب السياسية الجديدة وصلاتها، ومن خلال هذه الإلمامة السياسية يحار القارئ أيهما كان أسبق في الرواية؟ وأيهما هو الأساس الحياة الاجتماعية أم الحياة السياسية؟!
هل أراد الكاتب رصد المجتمع وكانت السياسة خلفية وإطاراً؟
أم هل أراد رواية سياسية والمجتمع يحتضنها؟
مهما كان الجواب فإن جهاد جديد قدم رواية «العطش» بكل جرأة وإقدام، كان واضحاً وشفافاً وواخزاً ومعرياً لحقبة سياسية في تاريخ سورية، ربما إن فهمناها نفهم الأسباب التي دفعت سورية إلى الوراء بدل التقدم!
رواية سياسية تضج بالحياة والحيوية، ورواية اجتماعية غير مبتورة عن سياقها وتاريخها.. هي رواية «العطش» فهل يستمر العطش طويلاً؟!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن