ثقافة وفن

عبد الغني العطري… بين الدنيا ودنياه

| شمس الدين العجلاني

عبد الغني العطري، شيخ الصحافة السورية وأحد أعمدة الإعلام السوري، فهو بحق من رواد النهضة الأدبية والصحفية العربية الحديثة. ولكن لم يعط العطري حقه بحجم عطائه.. لم يعط حقه كأديب ساخر وأديب ضاحك.. لم يعط الحق للنكتة اللاذعة والأدب الضاحك عند هذا الصحفي الأصيل العتيق..
ولد العطري وعاش وتوفاه اللـه في دمشق بين حاراتها وأزقتها، بين جوامعها وكنائسها، بين فقيرها وغنيها، بين سادتها وفقرائها..
كتب العطري عن الشام من بابها لمحرابها، عن كتاتيبها وناسها وبيوتها وسياسييها وعبقرييها.. كتب العطري وأبدع حين أصدر عبقريات شامية وعبقريات من بلادي وإعلام ومبدعون وأدبنا الضاحك وهمسات قلب ودفاع عن الضحك وبخلاء معاصرون وأخيراً أبدع أكثر وأكثر في اعترافات شامي عتيق.. رحمك اللـه أيها العاشق العتيق، المبتسم، الضاحك، الساخر… المتيم بدمشق الشام…

من هو؟
عبدُ الغني بن محمَّد بن عبد الغني العِطري، من العائلات الدمشقية العريقة، ولد بدمشق عام 1919م، وتوفي فيها إثر حادث أليم عام 2003م عن عمر يناهز الرابع والثمانين، والده من تجَّار بلاد الشام وأعيانها، والدته فوزيَّة الذهَبي، تزوج بدمشق من سلمى اللحام الأديبة العريقة والمعروفة ورزق بولد هو سامر العطري المعروف في الأوساط السورية.
عاش وترعرع عبدُ الغني بين منطقة العقيبة «بيت جده لأمه» وحي سوق ساروجة بيت أبيه الكبير: «بيت أبي كان في سوق ساروجة، وفي حارة قولي بالذات، وهذه الحارة كانوا يسمونها أيام الأتراك استنبول الصغيرة، نظراً لاتساعها وضخامة بيوتها، وكان البيت الأول فيها بيت محمد علي العابد، أول رئيس للجمهورية السورية، وهو بيت واسع كبير، وفيه صفات البيوت الدمشقية العريقة، من بركة ماء كبيرة في صحن الدار، وغرف وقاعات، وحدائق وأشجار.
أما بيت أبي، فكان من أضخم بيوت المنطقة كلها، وبركة الماء فيه، تصلح أن تكون مسبحاً لعدد من السابحين، وأشجار الكباد والليمون الحلو والحامض والكرز والتفاح والمشمش والدراق، ودوالي العنب الحلواني تكفي سكان المنزل مع ضيوفهم.
كان أبي يشغل في المنزل غرفتين لنومه، إحداهما في الطابق الأول، وتطل على أشجار الدراق الزهري الذي اختفى أثره هذه الأيام. أما الثانية فهي غرفة عالية منفردة، تدعى «الطيارة». وتتمتع بهواء أكثر صفاء ونقاء، ومناظر أكثر جمالاً وسحراً..».
درس بدمشق في الكليَّة العلميَّة الوطنيَّة إلى المرحلة الثانويَّة، وظهر تفوُّقه في مادَّتَي الأدب العربيِّ والأدب الفرنسيِّ.
أولع العطري بالقراءة والكتابة في سنيه الأولى وأبدى شغفاً بشراء الجرائد والمجلات العربية والفرنسية «لوبوان، لوكانار آنشينيه، باري ماتش..»، وبدأ حياته الصحفية المهنية وهو لم يزل طالباً في المرحلة الثانوية فكان ينشر المقالات والقصص المؤلَّفة والمترجَمَة في مجلَّة (الرسالة) المصريَّة لصاحبها أحمد حسن الزيات، و(المكشوف) اللبنانيَّة لصاحبها فؤاد حبيش، أما بداية داء الصحافة «حسب قول العطري» فقد استوطن وسرى في دمه، وبات من المستحيل الشفاء منه أو التحول عن طريقه حين كان على مقاعد الدراسة واصدر مجلته الأولى «الأمل» من 24 صفحة وبخط يديه.
تأثر العطري بكل من الروائي المصري محمود تيمور والأديب الفرنسي «موباسان» فيقول: «بدأت صداقتي الوثيقة للروائي المصري الكبير محمود تيمور، وزاد تعلقي بقصص» موباسان «الفرنسي».
تولَّى العطري رِئاسةَ تحرير جريدة (الأخبار) اليوميَّة بإلحاح من صاحبها الصحفي العريق محمَّد بَسيم مُراد، وفي عام 1945م عمل في محطَّة الشرق الأدنى للإذاعة العربيَّة- ومقرُّها مدينة يافا– كما عُهد إليه كتابةُ أحاديثَ أدبيَّة لإذاعة لندن، وكتب في وقت متأخر أيضاً مقالات منوعة لبعض المجلاَّت الكُبرى، منها: (العربي)، و(الفيصل)، و(المجلَّة العربيَّة) و(طبيبك).
وفي 15 من كانون الأول 1963م سافر العطري إلى مدينة جُدَّة في السعوديَّة؛ وعمل رئيساً لتحرير (مجلَّة الإذاعة)، ومراقباً للمطبوعات الفرنسيَّة، وقام بنشر عشَرات المقالات الأدبيَّة والفكريَّة في الصُّحف السعوديَّة، إضافة إلى تحرير صفحة كاملة يومياً في جريدة (الندوة).
ولكن لم يرق المقام هنالك للعطري فعاد أدراجه إلى معشوقته دمشق بعد غياب استمر قرابة السنتين.. ثم تولَّى رئاسة المكتب الصَّحفيِّ في السِّفارَة السعوديَّة بدمشق من عام 1969م حتى 1986م، وكتب في الصحف السورية الصادرة آنذاك.
لم يتابع العطري دراسته الجامعية فقد سرقته الصحافة التي أولع بها منذ نعومة أظفاره.
في عام 1941م وكان في العشرين من العمر، بدأ في إعادة إصدار مجلة «الصباح» بعد أن اتفق مع صاحبها، في ظل ظروف سياسية معقدة، وعقب إتمامه لدراسته الثانوية مباشرة، وأصدر العدد الأول منها يوم 6 تشرين الأول من عام 1941م.

الصباح
اتفق العطري مع صاحب مجلة «الصباح» التي كانت متوقفة عن الصدور واتفقا على إعادة إصدارها على أن يتولى العطري كل شؤونها، وتم الاتفاق بينهما على ذلك بموجب عقد مدته سنتان وبمبلغ قدرة خمس وعشرون ليرة سورية شهرياً، واستعان العطري لإصدار «الصباح» بصديقة نزيه الحكيم، وحين رغب العطري في تجديد عقد «الصباح» رفض صاحب «الصباح» تجديد العقد طمعاً منه في استثمار نجاح «الصباح» الذي حققه العطري!؟ ويقول العطري في ذلك: «إن عملاء السوء ثرثروا لمالك المجلة لئلا يجدد فاستجاب لهم.. تآمر عليها الحاسدون، وعز عليهم نجاحها الكبير، فذبحوها وهي في ربيع العمر..» ولكن لم تصمد «الصباح» فانهارت وتوقفت بعد أن تركها العطري.
حين أعاد العطري إصدار مجلة «الصباح» اعتبر ذلك مغامرة بل اتهمه البعض بالطيش والتهور، ولكن بعد مدة وجيزة من الزمن استقطبت «الصباح» عدداً كبيراً من الأدباء والشعراء والصحفيين من سورية ولبنان ومصر، وأصبح لها قراؤها ومحبوها وكان ممن كتب بالمجلة آنذاك:
نزار قبَّاني، وعبد السلام العُجَيلي، فؤاد الشايب، وبديع حقِّي، وسُهَيل إدريس، وسعد صائب، وعدنان مَردَم بك، ومحمود تَيمور، وزكي مُبارك، ويوسف جَوهر، وخليل مَردَم بك، ومحمَّد البِزِم، وشَفيق جَبري، وأحمد الصَّافي النَّجفي، وزكي المَحاسني، وفؤاد الشَّايب، ومحمَّد الفُراتي.

الدنيا
بعد أن ترك العطري «الصباح» بحث عن امتياز آخر لجريدة أخرى، فحصل على امتياز جريدة يوميَّة لصاحبها محمد الدالاتي، وحوَّلها إلى مجلَّة أسبوعيَّة جامعة مصورة سمَّاها (الدنيا)، وأصدر العدد الأول منها يوم 17 من آذار 1945م، ورافقت «الدنيا» العطري في السراء والضراء وطارت نجاحاته فيها في أنحاء الوطن العربي والتصق اسمه أينما حل ورحل بـ«الدنيا»، وفي ذاك الوقت دفع العطري ثمناً لامتياز «الدنيا» مئة ليرة ذهبية.
في «الدنيا» حقق العطري كل أفكاره وأحلامه الصحفية، فكانت «الدنيا» وثبةً في عالم الصِّحافة، استطاع أن يجعلها في متناول الناس في كل من سورية ولبنان والعراق والأردن ودول عربية أخرى وبعض الدول الأوروبية، وأدخل عليها أبواباً جديدة، ابتكرها مثل أبواب التعارف وعيادة القراء وغيرها من الأبواب التي لقيت استحسان القراء، كما أدخل على «الدنيا» الطِّباعةَ الملوَّنة في الغلاف «في السنين الأولى كان الغلاف لونين ومن ثم أصبح أربعة ألوان» والصفَحات الداخليَّة، وجدَّد في إخراج المجلة مستفيداً من المجلاَّت الفرنسيَّة التي كان على تواصل دائم معها، كما اعتمد على الصور والرسومات الكاريكاتيرية.. وكان يملك مطبعة خاصة لمجلته أما الغلاف الملون فكان يطبعه في مطابع جريدة الإنشاء لصاحبها وجيه الحفار.
كانت «الدنيا» حسبما كتب على صفحاتها: «مجلة أسبوعية مصورة تصدر صباح كل خميس، صاحبها ورئيس تحريرها المسؤول عبد الغني العطري» وكانت إدارة المجلة في بناء الجابري في شارع السنجقدار، وقيمة الاشتراك السنوي في سورية ولبنان 20 ليرة سورية، وللدوائر الرسمية 30 ليرة سورية، أما الاشتراك في باقي الدول فهو 4 دنانير عراقية، كانت «الدنيا» توزع في لبنان والعراق والأردن وبعض الدول الأوروبية، وتصل إلى كل مدينة وقرية سورية.
واستمرت «الدنيا» في الصدور لمدة 13عاماً وبشكل متواصل من عام 1945م إلى 1958م زمن الوحدة مع مصر، مع تعطيل يستمر أياماً من قبل السلطات الحاكمة، فقد عطلت وصودرت أعداد المجلة عدة مرات زمن عبد الحميد السراج، كما عطلت بموجب مرسوم صادر عن الرئيس شكري القوتلي لمدة شهرٍ كاملٍ، بسبب كاريكاتير نشره على صفحات مجلته يتعرض به إلى إهمال الحكومة عام 1948م لباخرة الأسلحة الواردة لسورية وقرصنة إسرائيل لهذه الباخرة.
وخلال هذه الفترة الزمنية وتحديداً عام 1953م أصدر العطري مع مجلته كتابًا شهريًّا باسم (كتاب الشهر) استمرَّ قرابة السنه في إصداره، ثم أوقفه للتخفيف من وَطأة العمل وكثرة الأعباء المادية.
في عام 1958م طلب عبد الحميد السراج من جميع أصحاب الصُّحف والمجلاَّت توقيع تنازُل عن مطبوعاتهم، بناء على مرسوم أصدره الرئيس جمال عبد الناصر، على الرغم من أن نص المرسوم ورد به لكل من «يرغب» وبذلك أوقفت «الدنيا» عن الصدور إلى عهد الانفصال فأعاد العطري إصدار مجلَّته (الدنيا) في الثاني من آب 1962م، بعد تعطيل استمر قرابة ثلاث سنوات ونصف، فصدرت «الدنيا» في حُلَّة جديدة وقفزة صَحفيَّة كبيرة وأعادت الألق والبهجة للعطري، ولكن لم تستمر الحال على ما هي عليه فجاء البلاغ رقم 8 لعام 1963م الذي قضى على الصحافة الخاصة وكانت «الدنيا» من ضحايا هذا البلاغ! ففقد العطري معشوقته «الدنيا» وعاش على ذكراها وحين عاد موعد اللقاء مع «الدنيا» ترجل الرجل الصحفي عن صهوة جواده وترك الدنيا و«دنياه» وتركته «الدنيا» ورحلا معاً عن عالمنا!!!
ففي عام 2001م صدر القانون الذي يسمح بإصدار الصحف الخاصة بعد توقف دام قرابة 40 عاماً، فهمّ العطري لإعادة إصدار دنياه «مجلته الدنيا» التي لم تغب عن مخيلته يوماً واحداً. وبدأ الرجل الصحفي بإعداد العدة والعودة إلى معشوقته لينطلقا معاً برغم تجاوزه الثمانين من العمر، وحجز العطري لمعشوقته «مجلة الدنيا» مكتباً خاصاً في دمشق، ولملم كل أوراقها وجواز مرورها، وحين قرب موعد اللقاء وافته المنية إثر حادث سير عام 2003م وافتقدنا الشيخ العريق في الصحافة ومعشوقته «الدنيا».
يقول العطري عن معاناته في مجلة الدنيا: «أسستها بالعرق والدموع، وبذلت فيها صحتي وشبابي» وجدير بالذكر أن العطري تعرض مرات عدة للاعتقال بسبب «دنياه» من عبد الحميد السراج!

وترجل الفارس
في مساء يوم الأحد الواقع 23/2/2003م، كان عبد الغني العطري عائداً إلى منزله مشياً على قدمية، وإذ بسيَّارة مسرعة تصدمه، وتلقيه جثة هامدة… وافتقدنا شيخاً من شيوخنا وافتقدت دمشق ابناً باراً من أبنائها وافتقدت الصحافة السورية أحد أعمدتها وافتقد الأدب أحد أركانه وافتقد الضحك صاحبه وافتقد الأدب الساخر أهم عشاقه… وافتقد الفن أهم أصدقائه.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن