ثقافة وفن

دمشق عميدة المدائن كانت ولم تزل … الشيخ محمد الأشمر: لقد بذلنا دماءنا ﻟﻨﻴﻞ ﺍﻻستقلال… ﻓﻬﻞ ﻧﻘﺒﻞ ﺃﻥ نرجع ﺍﻷﺟﻨﺒﻲ إلى بلادنا بإرادتنا

| شمس الدين العجلاني

في دمشق الشام رجال أشداء، سحروا بسيرتهم التاريخ، وسطروا إلياذة خالدة، وكلما فتحت صفحات التاريخ تقف أمامك قامتهم الشامخة..
دمشق قالت كلمتها ومشت نحو الأفق تنشر الحضارة والعراقة والحب والياسمين.
هنا في الأزقة والحارات والزواريب، هنا في دمشق الشام كيفما كانت وجهتك فالتاريخ يلاحقك، ويسير معك ويروي لك قصص الأنبياء والرسل قصص الملوك والفقراء، قصص الطغاة والأتقياء قصص رجالات سورية التي طالت قامتهم أعالي السماء…
قصص وحكايا لها بداية وليس لها نهاية، في الشام كانت الديانات الثلاث، وفي الشام نبت التاريخ واستوطن، ونسج بساطه على مساحة المعقول وغير المعقول، وأنار منها دروب الحب والبناء والحضارة.
دمشق الشام منذ الأزل ارتدت عباءة القدسية، عباءة مطرزة بالتاريخ، وكل حجر فيها يروي قصة وحكاية، وتحت كل حجر فيها تقبع مدينة وحضارة، وقامة رجل تقي نقي عاشق للوطن…

دمشق يقولون إنها « مدينة تفيض بقلبها، ولن تفهمها قبل أن تنفذ إليه ومن الصعب أن تفهمها فهي سر وأسرار، مدينة بسبع مدن، وسبع بحرات، وسبعة أنهر، وتاج مدن الحضارات السبع، وأبوابها سبع ولدت من الكواكب السبعة…
وفي دمشق عندما هدم عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس سورها وقع حجر كان مكتوباً عليه باليونانية: «ويكَ أم الجبابرة، من رماك بسوء قصمه الله..».
و«ما بعث الله نَبِياً إلا من الشَّام، فإن لم يكن من الشَّام هاجر إلى الشَّام».
دمشق تقلب عليها أقوام وأقوام، وعرفت من المجد لحظات ندر أن عرفتها مدينة أخرى. وعرفت من الأيام السوداء ما يبكي الحجر. ولكنها لم تعرف مذلة اليأس، فدمشق عميدة المدائن كانت ولم تزل تحمل التفاؤل المشبع إيماناً بالحياة، وأنها أقوى من الموت، والشدائد.. وبقيت وستبقى دمشق، هي دمشق الرقم الصعب، حاملة لواء العرب والعروبة، فـ(الرسم الجميل يرسمه رسامون دمشقيون… والورد الدمشقي، يزرعه مزارعون دمشقيون… والقومية العربية.. تصنعها السيوف الدمشقية…). لا يعرف أحد سر دمشق ولا يمتلك أحد الحقيقة كاملة ولكن جميعنا يثق أن هنالك إلهاً يحمي دمشق… وفي دمشق هذه كان هنالك رجل اسمه محمد الأشمر، هو شيخ من شيوخ الشام، يحمل في فكره سماحة الإسلام، ويتعبد الله ليلاً ونهاراً، ويقيم الصلاة ويؤدي الزكاة.. ويفتح ذراعيه لكل العشاق لأنه يعرف أن الدين هو حب الله والوطن والإنسان…

الشيخ محمد الأشمر
رجل نحيل نحيف، أسمر البشرة، بشوش الطلة، يبدو على ملامحه ذكاء شديد، قسمات وجهه قد نحتتها خبرات طويلة في الحياة، وتجارب ليست لرجل عادي، قسمات وجهه الهادئ البسيط تشعرك بأنه قد جمع كل حكمة وعمق خبرة الزمن ومزجها في شخصية أسطورية رائعة قلما يجود بها الزمان، هو الشيخ محمد الأشمر أحد أهم شيوخ الشام وأحد القادة الوطنين ضد المحتل الفرنسي، وهو بطل الحرب والسلام، وصفه ذات يوم من عام 1957م الصحفي والكاتب المصري محمد عودة المعروف بمصر بـ(غاندي الثقافة العربية) بالقول: «يبدو بوجهه الباسم السمح كتمثال من تماثيل القديسين لا زعيماً لحي الميدان، أو شيخاً من شيوخ الثورة السورية الكبرى، أو حائزاً جائزة ستالين للسلام».
ﻳﺘﺼﻒ الشيخ الأشمر ﺑﺎﻟﺸﺠﺎﻋﺔ، فهو ﻻ ﻳﻬﺎﺏ ﺍﻟﻤﻮﺕ، تمرس ﻋﻠﻰ الفروسية والرماية وفن القتال، وعاشر البدو والحضر واكتسب منهما هذه الصفات الحميدة، أحد قادة السورية عام 1925 م، ولد محمد الأشمر بن طه بدمشق في حي الميدان الفوقاني عام 1892 م أو عام 1894 م، من أسرة من حماة جاء أحد أجداده إلى دمشق.
استوطنت عائلة الأشمر في دمشق بحي الميدان، شارك محمد الأشمر في معركة ميسلون، ونزح إلى حوران حيث شارك مع الثوار ضد الحملات التأديبية التي كان المحتل الفرنسي يرسلها إلى حوران، هرب إلى شرقي الأردن بعد أن أصدرت المحكمة العسكرية الفرنسية بدمشق أمراً باعتقاله، وأخذ يتنقل بين شرقي الأردن وغوطة دمشق متخفياً، وفي عام 1936 م التحق بثورة فلسطين. وفي عام 1956 م دعي إلى زيارة الاتحاد السوفيتي ولقي فيه الترحيب والتكريم ومنح وساماً ومنح جائزة ستالين لأنصار السلم.
عاش الأشمر فترة من حياته في ﻗضاء ﺇﺯﺭﻉ ﻓﻲ ﻣﺤﺎﻓﻈﺔ ﺩﺭﻋﺎ وتلقى علومه في كتاتيبها، ولما عاد إلى دمشق ﺩﺭﺱ ﻋﻠﻰ ﻳﺪ ﺍﻟﺸﻴﺦ ﻋﺒﺪ ﺍﻟﻘﺎﺩﺭ شموط اثنتي ﻋﺸﺮﺓ ﺳﻨﺔ. ثم على يد محدث ﺍﻟﺸﺎﻡ الأكبر ﺍﻟﺸﻴﺦ بدر الدين ﺍﻟﺤﺴﻨﻲ الذي ﺗﻮﺳﻢ ﻓﻴﻪ ﻛﻞ ﺍﻟﺨﻴﺮ ﻭﻭﺟﺪ ﻓﻴﻪ ﻣﻌﺪﻥ ﺍﻟﻤﺠﺎﻫﺪﻳﻦ ضد الاحتلال الفرنسي..
سلك الطريقة النقشبنديّة على يد الشيخ أمين الزملكاني الكردي بدمشق، ويروى عنه اعتكافه ﻓﻲ الزاوية النقشبندية ﻓﻲ ﺟﺒﻞ الأربعين، وخروجه منها ﻃﺎﻫﺮ ﺍﻟﻘﻠﺐ، ﺻﺎﻓﻲ ﺍﻟﻨﻔﺲ، ﺷﺪﻳﺪ ﺍﻟﻌﺰﻡ ﻋﻠﻰ ﺃﻥ ﻳﻠﺤﻖ ﺑﺎﻟﻄﺮﻳﻖ ﺍﻟﺴﻮﻱ، ﻭﺃﻥ ﻳﺨﺪﻡ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻣﺎ ﺍﺳﺘﻄﺎﻉ ﺇﻟﻰ ﺫﻟﻚ ﺳﺒﻴﻼً، وحماية وطنه من الأعداء.
ﻛﺎﻥ الأشمر في شبابة يلبس ﺯﻱ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﺒﺎﺩﻳﺔ، ﻭﻟﻤﺎ ﺃﻟﺒﺴﻪ شيخه ﺍﻟﻨﻘﺸﺒﻨﺪﻱ ﺍﻟﺜﻮﺏ ﺍﻷﺑﻴﺾ ﻗﺎﻝ ﻟﻪ: ﻫﺎﻙ ﺛﻮﺑﻚ ﺍﻷﺑﻴﺾ ﻛﻨﻔﺴﻚ ﺍلبيضاء.. ﺇﻥ شئت ﻭﺳﺨﺘﻪ. ﻭﺇﻥ ﺷﺌﺖ ﺃﺑﻘﻴﺘﻪ ﺃﺑﻴﺾ ﻧﺎﺻﻌاً، ﻭﻋﻨﺪﻣﺎ ﻋﺎﺩ ﺇﻟﻰ ﻣﻨﺰﻟﻪ ﺟﻤﻊ ملابسه ﻭﺃﺣﺮﻗﻬﺎ، ﻭﺑﻘﻲ ﻋﻠﻰ ﻣﻼﺑﺴﻪ ﺍﻟﻘﻄﻨﻴﺔ طوال ﺣﻴﺎﺗﻪ.
الأشمر من قادة الثورة السورية ضد المحتل الفرنسي سنة 1925م، وعندما اشتعلت نيران الثورة الكبرى في فلسطين سنة 1936م التحق بصفوف الثوار ودخل فلسطين على رأس مجموعة من المجاهدين السوريين عن طريق شرقي الأردن وانضم إلى قوات الثوار المحليين والقوات العربية التي دخلت فلسطين بقيادة فوزي القاوقجي. ولما توقفت أعمال الثورة في فلسطين إثر نداء الملوك والرؤساء العرب في (12/10/1936م) انسحب الأشمر ومن معه إلى شرقي الأردن ومنها إلى سورية.
الشيخ محمد الأشمر من أهم رجالات وزعماء الوطن، وهو من أهم زعماء دمشق وحي الميدان على مر التاريخ.. وتشهد له مواقفه من الخونة والجواسيس ومطاردتهم وتقديمهم للمحكمة.
كان الأشمر من أنصار الكتلة الوطنية فعند اختيار هاشم الأتاسي رئيساً للكتلة عند تأسيسها عام 1928 وتأليف مجلس الكتلة كان الأشمر أحد أعضاء هذا المجلس.

اعتقاله من قبل شكري القوتلي
من المؤسف القول إن دارة الشيخ محمد الأشمر كانت حمى لمن دخلها، لم يجرؤ فرنسي أن يدنو منها ولكن في عهد الاستقلال اقتحم داره عدد من الضباط واقتيد الأشمر إلى السجن.
ويروى أنه صدر الأمر باعتقاله، فدخل عدد من الجنود والضباط إلى مضافته فأبلغوه على لسان رئيس الجمهوريّة شكري القوتلي، ورئيس الوزراء سعد الله الجابري، أن في ذلك إطفاء لفتنة يقف وراءها الفرنسيّون بهدف عرقلة الجهود المبذولة للتوصّل إلى ممارسة الاستقلال بشكل كامل، فنفّذ الأشمر القرار حقناً للدماء، ولم ينتصر لنفسه، وحذّر إخوانه من الفتنة، وتوجّه إلى جزيرة أرواد مع سجّانه طواعية، فأقام فيها ثلاثين يوماً!؟
وتحدّث الشيخ علي الطنطاوي عن ذلك وكيف تنكر الساسة السوريون للأشمر بعد الاستقلال فقال: « كان الشيخ الأشمر من الصالحين الذين ثاروا على الفرنسيين، وأبلوا في قتالهم البلاء المبين، وكانت داره حمى لمن دخلها، لم يجرؤ فرنسي أن يدنو منها، فيدخل عليه فيها، فلما كان عهد الاستقلال، وكان رئيس الوزراء سعد الله الجابري، أمر باقتحام دار الشيخ الأشمر، وبسحبه منها إلى السجن.. وعلّق الطنطاوي على الحادث بقوله: «نحن نخوض المعركة، وغيرنا يأخذ المغانم».

وفاته
انتقل الشيخ الأشمر إلى رحمته تعالى يوم الخميس الثالث من شهر آذار عام 1960 توفي الشيخ محمد الأشمر عن عمر يناهز ٦٨ عاماً، بعد أن أمضى حياته دفاعاً عن الوطن وأهل الوطن، وتعرض خلال حياته للملاحقات والاعتقالات والنفي من قبل المحتل الفرنسي، بل تعرض أيضاً زمن الاحتلال الفرنسي وزمن الاستقلال للمساومة على الوطن مقابل إغراءات مادية ومناصب، فلم يلن أو يتراجع بل كان يزداد صلابة وقوة للدفاع عن سورية.. وكان دائم القول: «ﻟﻘﺪ ﺑﺬﻟﻨﺎ ﺩﻣﺎﺀﻧﺎ ﻟﻨﻴﻞ ﺍﻻﺳﺘﻘﻼﻝ… ﻓﻬﻞ ﻧﻘﺒﻞ أن نرجع ﺍﻷﺟﻨﺒﻲ ﺇﻟﻰ ﺑﻼﺩﻧﺎ ﺑﺈﺭﺍﺩﺗﻨﺎ».
ﻟﻢ ﻳﺘﻮﻗﻒ ﺍﻟﺸﻴﺦ ﻣﺤﻤﺪ ﺍﻷﺷﻤﺮ ﻭﻫﻮ ﻋﻠﻰ ﻓﺮﺍﺵ ﺍﻟﻤﻮﺕ عن تقديم المساعدة والعون لكل أبناء الوطن وهذا ما دعاه أكثر من مرة والمرض يثقل قلبه للسفر خارج دمشق أو بين أحياء دمشق، ﻹﺣﻼﻝ ﺍﻟﺼﻠﺢ ﺑﻴﻦ ﻓﺮﻳﻘﻴﻦ ﻣﺘﺨﺎﺻﻤﻴﻦ، أو لحضور مناسبة أهلية مهمة.
لقد أمضى حياته مجاهداً مناضلاً خادماً للوطن وأهله، غير عابئ بالمناصب السياسيّة والمكاسب الماديّة، ساعياً لرأب الصدع، ورصّ الصفوف، كان مثالاً للرجل المؤمن التقي المدافع عن تراب الوطن.
وافت المنية ﺍﻟﺸﻴﺦ ﺍﻷﺷﻤﺮ ﻓﻲ ﺷﻬﺮ ﺁﺫﺍﺭ ﻋﺎﻡ 1960، ﻣﺘﺄﺛﺮﺍً ﻣﻦ ﺃﻣﺮﺍﺿﻪ المتعددة التي عانى منها….
ﻭﻗﺪ ﻗﺎﻣﺖ ﺍﻟﺤﻜﻮﻣﺔ ﺍﻟﺴﻮﺭﻳﺔ ﺑﺘﺨﻠﻴﺪ ﺫﻛﺮاه ﻓﺄﻗﺎﻣﺖ له ﻧﺼﺒﺎً تذكارياً ﻓﻲ الساحة التي أطلق اسمه عليها في حي ﺍﻟﻤﻴﺪﺍﻥ.. ﻛﻤﺎ شيد ﺃﻫﺎﻟﻲ حي الميدان مسجداً باسمه.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن