ثقافة وفن

بقايا صور للسوري نبيل المالح

| إسماعيل مروة

قيمة فنية عالية، وقامة سورية من الطراز الفريد.. بدأ مبدعاً، وغادر متمسكاً بأهداب إبداعه الأصيل. انحاز منذ عودته إلى البسطاء، وكانت آراؤه مسيرة لمشروعاته، فمن جانب وطني وإنساني بسيط اختار مشروعه الروائي الطويل الأول (الفهد) فأخذه عن رواية قصيرة لحيدر حيدر تحمل العنوان نفسه، وكثير من النقاد والناس يرون أن هذه الشخصية حقيقية، وقد صاغها أكثر من مبدع، اختار نبيل المالح أن يبدأ مع البسطاء فكان أبو علي شاهين الرمز البسيط الذي حوّله بإبداعه وكاميراته وثقافته من رجل بسيط في مناطق بعيدة إلى رمز في السينما السورية، ليصبح فيما بعد واحداً من كلاسيكيات السينما السورية والعربية والآسيوية. وشأنه شأن المبدعين الكبار لم يختر ممثليه من المتاح، بل أجرى مسابقة واختبارات لاختيار الذي سيكون رمز البسطاء، فاكتشف المبدع التشكيلي النجم أديب قدورة، ومع أديب قدم شخصية لا تنسى مع إغراء في دور العمر، ربما تناغم نبيل المالح مع أديب قدورة في بذرة الإبداع، فكلاهما تشكيلي يعنى بالرسم، وكلاهما لا يكترث إلا للفن الجميل الذي ينعتق من ذاته ليسكنه.. نبيل المالح قد يكون الوحيد الذي لم يركن إلى نجاح تجربته الأولى، ولم تسكره فرحته بما أنجز وبالجوائز التي انهالت عليه، ولا بتحول نجمه المكتشف أديب قدورة إلى نجم عربي يشارك في كثير من الأعمال المشتركة.
بقي نبيل المالح يجوب شوارع دمشق، يرصّ عينيه في مواجهة الشمس، ويبرع في اختيار خطوة لا تقل عن سابقتها، ومن من جيلنا الذي عاصر بدايات مهرجان دمشق السينمائي ينسى ذلك الفيلم الذي أنجزه نبيل المالح عن رائعة حنا مينة (بقايا صور) إذ برع في استعادة أديب قدورة واستنباط إبداع سمر سامي. ونكهة حنا مينة الحقيقية، ولعل المالح هو أبرع من قدم مينة في الجانب السينمائي، مع أن أعمالاً عديدة قدمت عن روايات الكاتب الكبير.
لم يركن المالح لتقديم الفيلم الشخصي، أو فيلم السيرة الذاتية، ولم يقدم الفيلم النخبوي الذي يصلح للمهرجان، ولكنه بإبداعه وحرفيته وصدقه قدم المعادلة الناجحة في فيلم يحصد الجوائز، وفي الوقت نفسه يحصد رضا الجمهور عند عرضه، والفهد إلى اليوم وبقايا صور لو عرضا لحصدا إعجاباً لا متناهياً على الرغم من التقانات الجديدة، ومع أن الأول بالأبيض والأسود، لكن براعة المالح وحرفيته جعلت عمله أقرب لأفلام السينما الإيطالية التي تستمتع برؤيتها في أي وقت، وتحت أي ظرف مهما كان التقدم التقني، لذا اختير الفيلم بين أفضل الأفلام الآسيوية منذ سنوات.
لم يسكره النجاح الذي حققه، وبقي ذلك الذي يجوب شوارع دمشق مشياً على الغالب من جادة الوزيرة حيث اختار بيته وحديقته، مروراً بمقاهي دمشق المميزة، وصولاً إلى دمشق القديمة، كثيراً ما يستوقفك نبيل وأنت معه، ويسرح صامتاً، ثم يمشي من دون أن يتحدث، وعليك أن تعلم أنه التقط شيئاً، دوّنه على ورقة من أوراقه الكثيرة التي يضعها في جيبه، وعلى الغالب ستضيع هذه الورقة لأنها رسخت في ذاكرته.
وتابع المالح انحيازه إلى البسطاء، وإلى التجريب السينمائي، وكلما تحدثت معه يقول لك: لدي مشروعات كثيرة، ولا يعبر عنها بتسمية الأفلام، لأنه في كل عمل يقدم تجربة، وفي انحيازه هذا قدّم الصديق الراحل تجربة من أبرع التجارب (الكومبارس) ليكشف جانباً مهماً من إبداع سمر سامي، وما عرفه من إبداع بسام كوسا، ولا أظن فيلماً سورياً أثار لغطاً وردود فعل إيجابية كما فعل هذا الفيلم، لقد كان نبيل المالح مميزاً ومختلفاً ولا يكرر ذاته.
ومشروعه الأثير أسمهان الذي بقي يحمله سنوات طويلة، يخاف عليه، لم يكن ليخرج كما خرج لولا أنفاس نبيل، وإن كانت القطبة المخفية..
لم يتوان بين تجربة وأخرى أن يهرع إلى الرسم والموسيقا والقراءة والأفلام التسجيلية، وفي آخر تجاربه التي شهدتها كنا نعمل في مشروعات للهيئة السورية لشؤون الأسرة، ففاجأ الجميع بفيلمه التسجيلي الراقي المفزع (عالشام وديني) وجرت حوله ندوات كثيرة، ولقي ردود أفعال متضاربة، لكن المالح قدّم ما عجزت عنه الدراما، وحوّل كل طفل إلى نجم، وكل مهمشة إلى نجمة.
اعتزل.. ابتعد.. هذا خياره.. كان صامتاً دامع العينين، لم يخرج عن تهذيب أو وقار.. تناول وجبة سريعة في ركن مخصص، أصابعه ترتجف، لا يتم طعامه.. يخرج إلى الشمس الحارقة، يبدأ التهام لفافة تبغ مميزة، وحين يتأبط ذراعك يرتجف.. وعند الوداع تدمع عيناه كثيراً، ويطول عناقه، ولا أنسى عبارته التي دونتها قبل مدة: (عالشام وديني) نظرت إليه، فقال لا تصدق، أنا لا دور لي، أنا الكومبارس عالشام وديني..!
هل كان نبيل المالح بقامته الأعظم من الإكسبو التي تقول: أنا قامة سورية شامية يختصر رحلة في بقايا صور؟؟ ربما.
وداعاً نبيل، وأنت تعلم أنني سأشتاقك، ونلتقي ونتحاور باختلاف، لكن بصوتك الخفيض الذي لا يغادر الذاكرة.
وستبقى السينمائي المخلص للسينما، المؤسس والعاشق، المخلص للسينما السورية بصنوفها كافة روائية وتسجيلية.. رحلت أيها النبيل وفي فمك كلام كثير لا أود ذكره إذ اكتشفت الحقيقة مبكراً، ولكن بعد أن خسرتك الكاميرا مبدعاً في الأزقة والأحياء، وافتقد الإنسان الذي جعلته همّك عدستك التي تنقل الجرح الغائر، وتصور نزف الإنسان..
وداعاً نبيل، وقد بقيت على قناعاتك ولم تحد عنها حتى رحلت وأنت ترقب الشمس الساطعة الحارقة التي تفتقد روعة شمس دمشق التي أدمنتها.. نختلف مع بعضها أو نتفق مع البعض الآخر لكن الشيء الذي لا نختلف عليه أنك كنت نبيلاً حتى أثناء الخلاف معك.
وداعاً أيتها القامة السورية التي يندر أن تجود الكاميرا بمثل رهافتها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن