ثقافة وفن

شاهين سيغاتا.. حكايةٌ من صلب الواقع إلى تنويعات الأدب

| أحمد محمد السح

لمّا يعُهد لحادثةٍ شعبيةٍ في العصر الحديث أن تناولها الأدب بهذا الشكل، والتنوّع من مبدعين استلهموا الإبداع من هذه الحادثة التي أغرت طموحهم، حين كانوا شباباً فشكلت هذه الحادثة رصيداً معرفياً لنا، عن طريقهم، بعد أن تحوّلوا إلى نماذج إبداعية تحتذى.. هنا يجري البحث في حكاية قرية سيغاتا من ريف حماة، التي تلفظ شعبياً سيغاتي، التي عانت الأمرّين في أربعينيات القرن الماضي بعد الاستقلال حين شذّ أحد أبنائها، وهو أبو علي شاهين عن طوق الظلم الذي عسف بأهلهِ، فرفض الإهانة، وتحوّل إلى عدوٍّ للدولة التي لم تكن قد مسحت بعدُ غبار الاستعمار، وكانت قد ورثت نظاماً إقطاعياً حاق بأهل الريف ظلماً كان احتماله ليس بالأمر اليسير. وأبوعلي شاهين ليس نموذجاً أسطورياً للبطولة إنه إنسانٌ عاديٌ بسيط، لم يستطع ابتلاع إهانة «زلمة البيك» حين طالبه بموسم عام قحط، فما كان منه إلا أن ضرب زلمة البيك وتحوّل إلى رجلٍ هارب من وجه عدالة تلك الأيام التي كانت بعيدةً عن اسمها، فحمل بندقيته وهام في الجبال والوديان يتصيّد حملات الدرك التي انطلقت للبحث عنه، فقاتلهم وحيداً مستفيداً من خبرته كابنٍ لتلك المنطقة، ومعرفته بتشعباتها ومخابئها، فصار بطلاً في أعين من ذاقوا الظلم ولم يعرفوا له دفعاً. وككلّ تراجيديات العصر انتهت هذه البطولة بالخيانة التي أودت به مكبّلاً في السلاسل وتم إعدامه وتعليقه في مدينة مصياف.
وحين نشأ جيل الكتّاب الشباب حينها من أبناء تلك المنطقة ومحيطها كانت طفولتهم وشبابهم قد أترعت بهذه الحكاية التي سردت على مسامعهم عشرات المرات وأكثر. فلم يكن من الشاعر محمد عمران إلا أن أورد القصة على شكل قصيدة اسماها شاهين في كتابه الشعري الأول: أغانٍ على جدار جليدي، الذي يذكر بأن قصائده كتبت بين عامي 1966-1967 أي بعد قرابة عقدين على حدوث الحادثة، ومحمد عمران من مواليد قرية الملاجة – طرطوس أي ابن بيئة مقاربة من حيث المسافة والشكل لبيئة أبو علي شاهين، والذي لا بد أن الحادثة رويت أمامه عشرات المرات، فوزعها في نصه الشعري على ست لوحات استخدم فيها لغة سردية في الشعر تمتاز بالبساطة رسم فيها سيغاتا كالقرية الحلم.. وأورد في النص حواريات بين شاهين وذاته، وبين شاهين ومحيطه عارضاً القصة وفق رؤية شعرية تلتقط من الحدث ما هو مناسب للدفق الشعري الذي يتراكب مع الصورة وبساطة اللغة.. ومنه قوله:
.. وسيغاتا يمزق ليلها الغرباءُ
سيغاتا
سؤالٌ: هل أتى شاهينُ؟
هل ماتا؟!
شاهينُ من عامين
لم يأتِ سيغاتا
فرَّ، كما التنينْ
فرّ، وما ماتا
• المصدر ديوان محمد عمران 1963-1983 الجزء الأول ص21.
ولم يتأخر عنه الشاعر والكاتب ممدوح عدوان حين أصدر مسرحية المخاض عام 1967 قبل النكسة، وهي مسرحية بفصل واحد تتحدث عن العلاقة بين الإقطاعي وبقية أفراد المجتمع بصورة متداخلة ومتراكبة مبنية بعلاقة سببية لا تسمي المجرم مجرماً إلا وفق تبريراته الإنسانية ولا تسمي البطل بطلاً إلا وفق مسببات البطولة، وتميز هذا العمل بأن غيّب عدوان شخصية شاهين عن الظهور واكتفى بسببية العلاقة، ورسم صورته من خلال البيئة التي خرج منها وعليها. وعدوان من مواليد قيرون- دير ماما أي ابن البيئة نفسها فتمكن من شرحها وتحليلها.
وبعدهما بقليل عاد الروائي حيدرحيدر ابن قرية حصين البحر- طرطوس ليقرأ الحادثة في عام 1968 مسلسلاً الأحداث على لسان راويها كما رواها له وسمعها، ملتزماً ذكر تخيلاته البطولية عن البطل الحلم وبيئته ومكرراً بنفس اللغة العتابا التي قالها أهل الريف عن شاهين، وبين لغة حيدر حيدر التي نقمت على السماء التي فعلت ببطله ما فعله، وعد تبريره للخائن خيانته.. قام حيدر حيدر بتسمية عمله باسم الفهد – جاعلاً من شاهين فهداً في الحركة والتنقل وهو لقب أطلقه عليه من عايشوه وآمنوا بما فعل وإن لم ينصروه أو يقدموا له من العون إلا اليسير. ومن هذه الرواية عادت الحكاية ليتناولها نوعٌ رابعٌ من الفن – إنه السينما الفن السابع، حين كتب الراحل مؤخراً نبيل المالح سيناريو فيلمه الفهد وأخرجه، من تفاصيل رواية حيدر حيدر، ومثل شخصية أبو علي شاهين الفنان أديب قدورة وشاركته البطولة الفنانة إغراء، التي يقول أبناء المنطقة أحفاد الفهد: إن زوجته شفيقة قد رفعت دعوى ضد الفنانة إغراء لبعض المشاهد التمثيلية في الفيلم وقد كسبتها، وهي معلومات لم نتمكن من التأكد من صحتها، ففي حكاية شاهين بين الحكاية والخيال خلط كبير، فمن الأقوال المنتشرة أنه بعد أن تمّ إعدامه تم شق صدره ليجدوا أن قلبه قد نمت عليه شعرتان، وهو رمز أسطوري ريفي دلالة أن حامل هذه الصفة لا يقارن بين الرجال لأنه قد سبقهم رجولة وبطولة.. وهذه الحكاية الشعبية الحقيقية التي عاشت من خلال ألسنة الناس فقامت أربعة أعمال فنية هي الشعر – والمسرح – والرواية – والسينما مقاربتها لأهمية الحدث في تلك المرحلة، لتتحول إلى تراث مجتمعي لا يمكن طمسه بسهولة إنما يتم استلهامه والسير على هداه.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن