قضايا وآراء

بين تراجع «المعارك العسكرية» والتجهيز لـ«المعركة السياسية»: ماذا بعد تشويه صورة المقاومة؟

| فرنسا – فراس عزيز ديب

حزب اللـه منظمةٌ إرهابيةٌ، المستغرَب ليس تأخُّر القرار الذي اتخذه قطيع الجهل الذي تقوده مملكة تقطيع الرؤوس، ولاحقاً جامعة «آل ثاني» العربية، بل ما يثير الاستغراب؛ هو استغراب البعض من هذا القرار.
لِمَ الاستغراب؟ الطرح ليس بجديدٍ، بل إننا تحدثنا عنه في صحيفة الوطن في مقالٍ بعنوان (حزب اللـه منظمة إرهابية! ما الجديد؟) منذ منتصف حزيران 2013، وقلنا يومها إن «آل سعود» سيلجؤون لهذا الخيار في النهاية كلما اشتد عليهم وقع الخسائر، لأنهم بالإضافة لسعيهم لتشويه صورة «أعداء الكيان الصهيوني»، فإن القرار له مجالٌ أوسع، يتعلق بعمليات طرد وترحيل ليس للبنانيين فحسب، ولكن لسوريين أيضاً من مشيخات النفط، بذرائع مختلفة بما فيها «الدعم المعنوي» للمقاومة، وهنا نذكِّر أن الحكومة السورية مثلاً صمتت طوال السنوات الماضية عن عمليات ترحيل لسوريين من مشيخة «أحفاد شخبوط» دون تحديد الأسباب، علماً أن ترحيل السوريين تحديداً لا يرتبط بالمذهب كما يشيع البعض، بل لدينا شهاداتٌ حيّة تثبت أن المستهدف هو «خيار المقاومة»، لأن هذا الخيار بالنهاية أبعد ما يكون عن «التمذهب»، بمعنى آخر:
هي عملية تأهيل الأرضية لما هو آتٍ، تحديداً بما يتعلق بعلاقة تلك المشيخات بالكيان الصهيوني، وهذا الأمر مر بمراحل عديدة، فتخيلوا مثلاً أن متصلاً على أحد البرامج «الوهابية» طرح على «مفتي مملكة الجهل» ذنبه المتمثل بمساعدته لـ«حزب اللـه» خلال حرب تموز 2006، سائلاً المفتي الدعاء كي يغفر اللـه له ذنبه، فكان رد المفتي أن هذا الأمر لا يجوز، لأن مساعدة «غير المسلمين حرام». هو مثالٌ بسيطٌ، لكنه يحمل الكثير من المعاني، لأننا ببساطةٍ ننطلق من بديهية أن السؤال والجواب في النهاية هما تمثيليةٌ هدفها الأشمل توجيه الشعوب حيث يريد «آل سعود»، لتمر القصة بتبني وزير داخلية «سلطة محمود عباس» وهو المعني الأساسي بقتال الكيان الصهيوني لقرار اعتبار الحزب الذي يقاتل الكيان الصهيوني إرهابياً. أما خاتمة هذه المرحلة ـ وليس العملية كلها ـ فهي لن تشذ أبداً عن ثقتنا بالحماقة التي يتعاطى بها «آل سعود»، كيف لا وهناك شبه إجماع على ترشيح «أبو الغيط»، وهو أحد معجبي «تسيبي ليفني»، وصاحب نظرية تكسير أقدام الفلسطينيين إن قاموا بالعبور نحو «رفح المصرية» بعد أن خنقهم الحصار (الصهيو ـ مصري)، لمنصب الأمين العام لجامعتهم العربية؟
لا شيء مستغرَباً، لكن من لا زال يعيش أوهام الشعارات، وأضغاث الأحلام من قبيل «العمل العربي المشترك» أو «العودة لترطيب الأجواء العربية»، هو كمن يساهم في استمرار كي الوعي العربي. هنا علينا أن نتفق على بديهيةٍ صغيرة، أننا كلما جمَّلنا الحقائق، كلما كنا شركاء في جريمة كي وعي الشعوب، وكلما تحدثنا بالحقائق كما هي، كلما ساهمنا أكثر بتهيئة الشعوب لما هو آتٍ، فهل علينا أن نراجع بعض أدائنا، تحديداً بما يتعلق بالتعاطي الإعلامي والنظرة لكل ما يجري، أم أن توصيف كل ما يجري كان سياسةً واقعية تجنبت الصدام المباشر؟
دائماً ما نقول إن من ينتظر من «نهج الملوك» التراجع واهِمٌ، ومن حاول طوال السنوات الماضية أن يجاملهم بذريعةِ عدم التصعيد أو عدم الانجرار نحو ما يريدونه هو كذلك الأمر واهِمٌ، الجميع يخوض معركته الأخيرة، وفي المعارك الأخيرة لا يمكن الحديث عن مجاملات، فلا فرق بين عدوي وصديقه إلا بالأداء، فكلاهما عدو، لكن ماذا عندما يتفوق أداء صديق العدو على العدو نفسه؟
يجري الحديث عن السعي للوصول بسورية نحو دولةٍ علمانيةٍ، ديمقراطيةٍ وجامعةٍ، وهل هناك من يظن أن هذه المشيخات دفعت الغالي والرخيص لتصل لهذه النتيجة؟! في الوقت الذي يقر فيه الجميع أن أمن الكيان الصهيوني ينطلق من فرضية تصفية الفكر المقاوم، فإن أمن مشيخات النفط ينطلق من فرضية وجود كيانات لا يمكن لها أن تتحرك بمعزلٍ عن المجهر الوهابي، هم يناسبهم إعلاماً رسمياً كما الإعلام السوري ما قبل 2011، والذي ارتكز على فرضية «العلاقات الأخوية» التي لاتتيح لأي كاتبٍ انتقاد حتى أصغر أمراء تلك المشيخات، وإلا فلتذهب إلى الجحيم أنت وكتاباتك، مع العلم أن الطرف الآخر لم يكن ليتعاطى بذات المنحى، لأن إعلامهم كان مفتوحاً للتحريض على سورية منذ عهد الملك فهد، فتخيلوا مثلاً لو أننا ومنذ سنوات تمكنا من قول الحقائق كما هي في «آل سعود» ومن لفَّ لفهم، فهل كنا سنصل لما وصلنا إليه. تخيلوا لو أن بعض الإعلام «المقاوم» وقف وقفةً تاريخية ورفض الانجرار وراء «آل سعود» بما يتعلق بإسقاط القذافي، ألم نكن لنسجل نقاطاً مضاعفة لأننا تعاملنا مع حقائق، ولم نكذب على أنفسنا، ربما مفيدٌ العودة للماضي قليلاً، ليس من باب الجلد، ولكن من باب التهيؤ للمستقبل القريب، فنحن الآن دخلنا رسمياً بإعادة المعركة نحو البدايات، أي مايسمونها هم «معركة سياسية»، وما فشلوا به في الحرب يجهزون له في السياسة، فكيف سيتم ذلك؟
زارَ ولي عهد «آل سعود» ـ من يروج له بعض المتحدثين في السياسة بأنه من العقلاء ـ باريس، بدا النفاق الفرنسي في أوجِّه، فوزير الدفاع الفرنسي «لو دريان» أعلن تأييده لحرب «آل سعود» في اليمن، علماً أن البرلمان الأوروبي ذاته الذي تسيطر عليه فرنسا وألمانيا وبريطانيا كان قد طالب بوقف بيع الأسلحة لـ«آل سعود» لأن ما يجري في اليمن يرتقي لجرائم حرب. إذاً، أليس هذا الأمر اعترافاً فرنسياً بالتورط بهذه المجازر؟
حاول «آل سعود» فيما يبدو تدارك تبعات القرار الأوروبي، تحديداً أن الزيارة قام بها «ولي العهد» الذي كان شبه مغيَّب في الفترات الماضية، أما الحديث عن سعيٍ فرنسي لعقد مؤتمرٍ يستهدف إعادة إحياء المفاوضات بين الفلسطينيين و«الإسرائيليين»، فإن فرنسا تتبناه شكلاً، لأنه في النهاية «همروجةٌ» أميركيةٌ اعتاد عليها الرؤساء الأميركيون المنتهية ولايتهم، كما فعل «جورج بوش» في «مؤتمر انابوليس». لكن هذه المرة، المضمون قد يحمل أشكالاً مختلفة، ليس أولها الانطلاق من قرار اعتبار «حزب اللـه» منظمةً إرهابية، حتى نصل لدعوة ممثلين عن «معارضة الرياض» السورية، التي ستكون مدعوّةً لتقديم موقفها بما يخص «الجولان السوري المحتل» ومستقبل العلاقات مع الكيان الصهيوني التي لن تخرج حكماً عن الحاضن الأم «مملكة الجهل»، وهذا كله بات مرتبطاً بإعادة تركيب وتعويم ما يجري في سورية للوصول نحو طبقةٍ سياسيةٍ تتصدر المشهد ضمن الداخل السوري، فهل بدؤوا بذلك؟
إن إعادة تعويم «ولي العهد» قد تكون نوعاً من إعادة رسم الخارطة الجديدة للأيام القادمة، فالزيارة لم تترافق مع استمرار وقف الأعمال العدائية فحسب، لكنها ترافقت مع بدء عملية «حلق الذقون» وإعادة التركيز على ما يسمى «علم الثورة» كرمزٍ يحمله بعض المتظاهرين هنا وهناك في مناطق عدة من سورية، علماً أن هذه «التمثيليات» تركزت بشكلٍ أكبر في مناطق تواجد الذراع الإرهابية السعودية «جيش الإسلام»، تحديداً أن مساعي فك ارتباط «النصرة» بالقاعدة فشلت، بل إن مناطق عدة بدأت تشهد صراعاً تصفوياً بين «النصرة» وباقي التنظيمات الإرهابية التي لم تعلن مبايعتها، كان آخرها ما جرى في ريف درعا، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الأمثلة لا تُعد ولا تُحصى عن تكفير العديد من التنظيمات الإرهابية بما فيهم «جيش الفتح» و«أحرار الشام» لكل من ينادي بالديمقراطية لأنها حسب زعمهم «حرام» و«ضلال»، فكيف نزل عليهم فجأة «الإلهام الديمقراطي»؟
أما نفي «جيش الإسلام» قبوله بما أسماها «الهدنة»، فهو تأكيدٌ على فرضية أن «آل سعود» ومن معهم يسعون لاستمرار المعركة حتى النهاية، بمعنى آخر: يلوحون بسيف «تمثيلية المظاهرات» بيدٍ، وسيف «الجهوزية العسكرية» بيدٍ أُخرى، وهذا معناه سقوط فرضية التدخل العسكري المباشر نهائياً، فكيف سيتم التجهيز لهذين الاحتمالين؟
واضحٌ أن «آل سعود» أخرجوا أنفسهم من لبنان، فهم حالياً لا يمتلكون إلا خياراً واحداً وهو دعم مجموعاتٍ إرهابيةٍ مسلحةٍ لتقاتل «حزب اللـه» في عقر داره، وهذا الكلام لا يبدو أنه قابلٌ للتحقق، لأنها مقامرةٌ ليست مضمونة النتائج، لذلك يبدو أن التكتيك الجديد هو التفرغ لما يجري في سورية، انطلاقاً من فكرةٍ «إسرائيليةٍ» قديمة تقول إن السيطرة على سورية سيعزل حزب اللـه عملياً، وسيقطع يد إيران على المدى البعيد. عليه فإن اللعبة القادمة قد تكون لعبةً سياسية، فالأتراك كنوعٍ من تبادل الأدوار لم يلتزموا بوقف العمليات العدائية، بل إنهم واصلوا تقديم كل الدعم اللازم للجماعات الإرهابية، أما «آل سعود» فسيتولون العمل على ما يمكننا تسميته الاتجاه السياسي، حتى الولايات المتحدة التي باتت ترغب فعلياً بالسعي نحو تكريس «الهدنة»، جهزت نفسها سياسياً؛ فالقانون الذي أقره الكونغرس حول «اعتبار جرائم داعش نتيجةً أو موازية لجرائم نظام الأسد»، وتقديمه من قبل الجمهوريين تحديداً، يشي لنا كثيراً بما هو قادمٌ، وعليه:
ليست المعركة فقط حول مستقبل سورية وطبيعتها، لكنها معركةٌ حتى على أدق التفاصيل في المنطقة، فهل ستكون النهاية بمعاركٍ سياسيةٍ تنتهي بما يشتهي «آل سعود» من لبننة سورية، أم هي نهايةٌ كما يحلم بها آخرون تنتهي بسورية كـ«دولةٍ فيدرالية». من المؤكد أن لا هذا ولا ذاك، دعوا الأيام تأتينا بالأخبار.. فمن صمد عسكرياً لن تُعييه المعركة السياسية..

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن