قضايا وآراء

بين السقوط في «الجحيم» وبلوغ «الفردوس»: عندما يكتب أوباما «كوميديا الغفران»…

| فرنسا – فراس عزيز ديب

في الروايات التاريخية وحتى الأدبية، لازالت الثقافة العربية تغرَقُ بأسئلةٍ فوضويةٍ لا معنى لها، من بينها مثلاً إصرار البعض أن صاحب «الكوميديا الآلهية» سرقَ الفكرة من صاحب «رسالة الغفران». أما في الواقع السياسي العربي، فإن فوضى ما يجري يجعلنا نتساءل: هل قرر أوباما أن يسرق الفكرة من «دانتي» و«المعري» ليكتب «ملحمته الرئاسية» التي شارفت شمسها على المغيب تحت عنوانٍ عريض.. «كوميديا الغفران».
مع انطلاق فترته الرئاسية الأولى، خصَّ أوباما الإيرانيين بكلمةٍ فيها كثيرٌ من التودّد، يومها لم يفهم مَن في المنطقة وتحديداً كارهي السياسة الإيرانية أن أوباما يضحك عليهم، وأن التفاهم (الإيراني- الأميركي) سيتم، والمحادثات ستُستتبع حتى بوجود الرئيس المحافظ «أحمدي نجاد» صاحب نظرية أن «الربيع العربي» هو «صحوةٌ إسلامية»!.
في حديثه لمجلة «أتلانتيك» لخّص أوباما مراحلَ رئاسته ووجَّه رسائل عدة، لم يضحك فيها على كارهي السياسة الإيرانية فحسب، لكن وقعَ في مطبِّها حتى كارهو السياسة الأميركية أنفسهم.
هكذا انسحب أوباما من كلِّ شيءٍ، وترك لسذاجة الأقلام وضحالة التفكير مساحةً للتعليق على ما قال، اعتبرَ أن المشكلة هي فقط بين (السعودية وإيران) إن لمْ يجلسوا ليتفاهموا، لكن على ماذا سيتفاهمان؟ على مفهوم العدو المشترك أم على مفهوم المصير المشترك؟.
هناك من هلَّل لهذا التصريح، فاعتبر أن أوباما يقر بدور «آل سعود» كلاعبٍ إقليمي لا يمكن تجاهله، لكن في المقلب الآخر هناك من هلَّل لهذا الكلام معتبراً أنه إقرار لإيران بمركزية دورها في الحفاظ على التوازن في المنطقة. كلا الطرفين متفقان ضمنياً أن ساحات النزال بينهما- خارج الحدود- كثيرة، لكن كلاهما تجاهل نقطةً أساسيةً في كلام أوباما وهي أن هذا الإسقاط يهدف لتعويم فرضيه النزاع (السني الشيعي)، هذا التحليل تبدو فيه «إسرائيل» وأميركا وكأنهما حمامات سلام، هذا الكلام برّأ الجناة، ووضع الكرة في ملعب من يحمل رايات الحرب، وترك الضحية تنزف، فعلامَ التهليل؟!
كذلك الأمر، فإن أوباما غسلَ يديه من دماءِ الأبرياء في سورية واليمن والعراق ولبنان، أما ليبيا فأوباما بريءٌ من كل ما جرى ويجري فيها، لأن مصائبها نتجت عن تردّد بريطانيا وتهور «ساركوزي»، فالولايات المتحدة دفعت ثمناً هو سفيرها في ليبيا، لكن ما الثمن الذي دفعه أولئك المنظرون لأهمية «سقوط الطاغية»؟
الثمن دفعناه جميعاً لأننا ببساطةٍ خُلقنا لنكون حطب هذه الحروب، فخسارة أميركا لسفيرها هي بمثابة خسارة الليبيين لبلدهم، وعلينا أن نصلي شكراً لأن أوباما يشعر بالندامة على ما جرى في ليبيا، تماماً كندم «طوني بلير» على ما جرى في العراق؛ لا فرق، هي حركة التاريخ، فهل سيتحنَّن علينا مروجو فكرة «سقوط الطاغية» بالكثير من الشجاعة ليصلوا للقليل من الندم؟!
لا جديد فيما قاله أوباما، الجديد أننا نكرر غباءنا ونجتر أفكارنا، الجديد أننا نساعد أوباما في تبييض تلك الصفحة المشؤومة من تاريخ النفاق الغربي، فحلفاء أوباما «الجامحون» حسب زعمه يريدون جر الولايات المتحدة «المسكينة» إلى حروبٍ طائفيةٍ لا تريدها «كدنا نجهش بالبكاء»، أما عن مملكة «آل سعود» فهو يعترف أنها منبعٌ للإرهاب، لكن لا مانع من محالفتها، بل لا مانع أن يذهب حليفه «ساكن الإليزيه» لأبعد من ذلك والقيام بتكريم ولي عهدها ومنحه «وسام شرفٍ»، نظراً لجهود مملكته في قتل الأبرياء وتدمير الأوطان حتى ولو تم الحدث خلف الأبواب المغلقة التي لا تسمح بوصول الضجيج الذي سببته صرخات الأطفال والثكالى والموجوعين في هذه الأمة.
أوباما هو ذاك «البطل» الذي نجح بتحقيق كل ما يمكن أن يتحقق من قتلٍ وتدميرٍ وإرهاب، والآن يريدنا أن نهلل لقراره الجريء بأنه رفض ضرب دمشق في آب 2013، لكن وفي ذات المقابلة ودون أن نشعر سرَّب ما هو أهم عندما قال إن «الأسد استخدم الكيميائي» ولذلك كان لابد من توجيه ضربةٍ عسكرية. هناك من تلهى بشجاعة أوباما، وتناسى تثبيت «الاتهام السياسي» للأسد بأنه استخدم الكيماوي والذي سيتم استثماره حكماً في قادمات الأيام بعد الجنوح نحو «المعركة السياسية»، والأهم من هذا وذاك أن أوباما لم يجبنا حتى الآن عن السر بين تحذيره الأسد من استخدام الكيماوي، وبين حدوث «جريمة الغوطة» بعدها بأيام لتوريط القيادة السورية، هل كانت كلمة سرٍ؟
هكذا هي الأمة، واعتقد أنها تحتاج لزمنٍ طويلٍ كي تتغير، لأن من عليهم التعويل لا يريدون أن يفكروا بفضاءٍ حر، لنعيش الانحدار تلو الآخر. هاهي الحقائق ماثلةٌ أمامنا لكننا مصرون أن نكون ملكيين أكثر من الملك، نصر أن نكون مدافعين عن السياسة الإيرانية «مثلاً» أكثر من الإيرانيين أنفسهم، ومروجين للسياسة الأميركية أكثر من الأميركيين أنفسهم، حتى عندما قررت جامعة «آل ثاني» انتخاب أمين عام لها جاءت بـ«أحمد أبو الغيط». الجميع تلهى بعلاقة «أبو الغيط» بـ»ليفني»، وصمت الباقون- إلا من رحم ربي- عن وصف المقاومة بالإرهاب، ولكننا نسينا أمراً أهم: ألم يكن «أبو الغيط» وزيراً لخارجية النظام الذي من المفترض أنه سقط بثورةٍ شعبيةٍ؟ إما أن الثورة لم تكن شعبيةً، أو أن «نظام السيسي» ما هو إلا الوجه الآخر لنظام مبارك- وهل هناك من شكٍ في ذلك!-. إذن هنيئاً لكم، لكن هل حقاً أن حديث أوباما في النهاية هو بدايةٌ لمنعطفٍ ما لإطفاء هذا الحريق الذي يلتهم الشرق؟
في حديثه بالأمس، وعشية انطلاق محادثات «جنيف3»، لم يكن كلام وزير الخارجية «وليد المعلم» واضحاً فحسب، لكنه حمل أسلوباً جديداً في التعاطي مع الطرف الآخر المفترض، تحديداً في توضيح الكثير من النقاط التي كانت تثير الكثير من التساؤلات في الشارع السوري، لعل أولها ما يُحكى عن «وهم الفدرالية»، وآخرها ما تتوهمه «معارضة الرياض» من الذهاب لجنيف لاستلام السلطة، فالمرحلة الانتقالية هي انتقالٌ من دستورٍ قائم لدستورٍ جديد، ومن حكومةٍ قائمة لحكومةٍ يشاركُ فيها من يريد الدخول في الحل السياسي، مع السعي الكامل ليشمل الحوار أكبر شريحة من السوريين، والتشديد على فكرة أن الوفد الرسمي لن ينتظر إلى ما لانهاية حتى يصل وفد «المعارضات» السورية. أما الرسالة الموجهة لـ«ديمستورا» فكانت واضحةً بأنه لا يحق له تجاوز صلاحياته لإرضاء الآخرين، وللآخرين الذين يهددون ليلَ نهار بتدخلٍ بري، قال لهم «وليد المعلم» إن عليهم أن يجربوا، فهل سيقتنع هؤلاء الآخرون بما يمكننا تسميته النزعة الأميركية للحل في ظل نفي «جون كيري» لوجود الخطة «باء» ومن قبله أوباما لإمكانية التدخل العسكري البري؟
زار أوغلو إيران، وبذات الوقت اتبَعَت روسيا وساطتها في «قاعدة حميميم» مع المجموعات المعارضة، التي قد يتم البناء عليها حال إخفاق جنيف لإتمام الهدنة وفرز الإرهاب. بذات الوقت هناك من يتحدَّث فعلياً عن قناعةٍ تركيةٍ بالانعطاف، لأن الأمور باتت تنفلت حتى في تركيا نفسها، وإِنْ كان الالتزام التركي لا يشي بذلك. حتى في اليمن هناك من يتحدث عن قبولٍ ضمني لـ»آل سعود» بالحوثيين كأمرٍ واقع، فهل هو فعلياً نزوحٌ نحو التهدئة الشاملة بعد الفشل الكبير في سورية؟ أم هي مرحلة تقطيعٍ للوقت لأن عين «آل سعود» لازالت على الانتخابات الأميركية، فهل سيكون «ترامب» هو طوق النجاة لانتشال «آل سعود» من الهزائم المتلاحقة؟
جميع الخيارات الآن مفتوحةٌ، وإذا كان أوباما قد تلا فعل ندامته، لكن غيره قد لا يلحق بذلك، وإذا كان «دانتي» أقرَّ أن العقاب النهائي يحتمل أقانيم ثلاثةٍ لخَّصها بالجحيم والمُطَهِّر والفردوس، فإن ليس كل ما جرى هو الجحيم، وليس كل من نجا هو في الفردوس. نحن الآن في منزلةٍ بين منزلتين، والمُطَهِّر يفعل فعلته، فإما أن ننجو وإما أن نسقط، وهل من سقوطٍ لمَن تطَهَّرَ بدماءِ الأبرياء؟ وهل من منجاةٍ لمن تورط بدماء الأبرياء؟..

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن