قضايا وآراء

ما بعد وقف العمليات القتالية

| عبد المنعم علي عيسى 

قياساً إلى التجربة العراقية الممتدة بين عامي 2006-2007 التي كانت عملية اغتيال أبي مصعب الزرقاوي (أيار 2006) إيذاناً ببدئها حيث ستعمد الحكومة العراقية فيما بعد إلى توجيه الدعوة لمختلف الفصائل المسلحة بالانضمام إلى العملية السياسية ومن ثم توجيه البنادق باتجاه الخطر المحدق الذي يمثله تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وهي الظاهرة التي أطلق عليها آنذاك بـ«الصحوات التي أثبتت فعاليتها في محاربة ذلك التنظيم الأمر الذي يفسر دخول هذا الأخير بمرحلة الموت السريري على امتداد الأعوام 2007-2010 قبل أن تشكل فوضى «الربيع العربي» إكسير الحياة الكافي للإقلاع من جديد.
قياساً إلى تلك التجربة يمكن القول إن عملية الإعلان عن بدء سريان وقف العلمليات القتالية السورية فجر 27/2/2016 تعتبر هي الأخرى إيذاناً ببدء مرحلة جديدة لم تتبلور جميع معالمها بعد وهي ستحمل معها الكثير من المتغيرات بمرور الوقت لعل أبرزها عمليات الفرز والتموضع الحاصلة التي تشهدها الفصائل المسلحة والتيارات المكونة لها حيث ستقول التقارير إن غرفة عمليات حميميم قد سجلت طلب 43 فصيلاً مسلحاً للانضمام إلى «الهدنة» حتى الآن.
على الرغم من عمر الهدنة القصير نسبياً (اليوم هو الثامن عشر) إلا أن تداعياتها باتت ملحوظة وطافية على السطح وهي تحمل بين ثناياها العديد من المؤشرات ففي يوم الجمعة الماضي 11/3/2016 وفي أعقاب خروج المظاهرات في إدلب وريفها احتجاجاً على ممارسات جبهة النصرة أصدر «جيش الفتح» قراراً بمنع رفع علم «الثورة» السورية ذي اللونين الأخضر والأبيض والنجمات الثلاث (علم الانتداب الفرنسي) أثناء المظاهرات، وهو أمر يقرأ على أنه يشير إلى وجود أزمة انتماء عميقة وهي تمر بمرحلة تردد قصوى تقف أمامها تلك الفصائل بشكل يبدو فيه أنها باتت عاجزة عن حسم خياراتها.
بات من المؤكد اليوم أن «جيش الفتح» الذي تأسس 25 آذار 2015 بتوافق تركي سعودي لم يعد قائماً على الإطلاق فهو لم يبق فيه سوى حركة أحرار الشام وجبهة النصرة ومع ذلك فإن التطورات الأخيرة تكشف عن آفاق المعركة المقبلة فيما بينهما وهي الحالة التي أمكن لحظها منذ لقاء الرياض 10/12/2015 عندما أظهرت الحركة اضطراباً بدا فيه أنها تضع رجلاً في العملية السياسية ورجلاً مع المستبعدين منها، قرأت جبهة النصرة هذا المخاض الذي تعيشه الحركة على أنه ماضٍ بالتأكيد نحو مآلاته الواضحة التي تفترض التحاق هذه الأخيرة بالعملية السياسية، كما قرأت أن ما جرى 8-9/3/2016 لا يحتاج إلى كبير عناء لكي يفهم أقله فيما يخص الجناح السياسي للحركة الذي رفض قرار جيش الفتح معلناً تأييده لرفع علم «الثورة» السورية على الرغم من أن قيادة الحركة لم تعترض علناً على ذلك القرار.
اضطراب الحركة يقض مضاجع أصحاب القرار في جبهة النصرة وهم مجبرون لأن يحسبوا له حساباً يفوق كل الحسابات ولذا نراها تمر هي الأخرى بمرحلة إعادة ترتيب الأوراق لمواجهة المرحلة المقبلة التي تتكشف أمامها 90% من معطياتها.
وسط هذا الانفلات النسبي للفصائل المسلحة عن العقال التركي، وفي ظل نفور غربي يتزايد باطراد في مواجهة الابتزازات التركية التي تعمل على استثمار الحالات الإنسانية للحصول على مكاسب سياسية بل مالية رخيصة الأمر الذي ظهر جلياً في قمة بروكسل 7/3/2016 التي خصصت (بمشاركة تركيا) لمناقشة أزمة اللاجئين السوريين، وكان أردوغان قد استبق تلك القمة بإطلاق الموجة الثانية من المهاجرين رافعاً سقف مطالبه إلى الحدود القصوى وهو يظن أن الاتحاد الأوروبي سيكون أعجز من أن يستطيع رفض أي أحد منها.
تركزت طلبات أردوغان في ثلاثة هي الأهم على الرغم من وجود ثلاثة أخرى إلى جانبها أولها أن يقدم الاتحاد الأوروبي 3 مليارات يورو سنوياً حتى العام 2018 وأن يوافق (الاتحاد أيضاً) على تأييد منطقة عازلة أو ممرات إنسانية على الأقل على الجانب السوري ثم الموافقة على استئناف المفاوضات الرامية إلى انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، كانت الحصيلة من وراء ذلك صفر مكاسب وهي نتيجة تؤشر إلى أن الطالب التركي لم يكن مدركاً لما يدور في خلد الأوروبيين سواء أكان لجهة الأزمة أم لجهة نظام أردوغان نفسه فحتى ما يخص المليارات الثلاثة انتهى اجتماع بروكسل من دون أن يحسمها.
وسط هذه الانفلاتات وفي خضم هذا النفور الغربي أراد أردوغان القيام بحركة التفاف على سريان الهدنة السورية حيث دفع في الأسبوع الماضي بقيادات تنتمي إلى الفرقة 13 وهي فصيل عسكري مدعوم تركياً قوامه يصل إلى أكثر من 600 مقاتل أغلبيتهم من الأكراد المناهضين لحزب الاتحاد الديمقراطي إلى إطلاق التهديدات من هنا وهناك والتي كان آخرها عندما خرج القيادي في الفرقة (محمود خلّو) ليقول إن مهمة الفرقة هي السيطرة على المنطقة الممتدة من اعزاز حتى جرابلس وهي الطلب التركي المعدّل بعد قبوله بـ«ميني» منطقة آمنة.
على الرغم من أن أردوغان يدرك جيداً أن الأمس هو غير اليوم وأن المتغيرات في ما بينهما كبيرة إلا أنه لا يزال يلف ويدور حول الدوامة نفسها وهو ما يؤكد أنه لا بديل لديه للوصول إلى طموحاته أو إلى مصالحه على الأقل ولربما يمكن رصد المتغيرات الكبيرة بمثال بالغ الدلالة، ففي خريف عام 2014 جرى تسريب تسجيل صوتي لاجتماع قادة أتراك كان من بينهم (وهو المتحدث الأكبر) هاقان فيدان رئيس الاستخبارات التركية وقال فيه هذا الأخير: إن أنقرة لن تعدم الوسيلة في إيجاد الذريعة التي تمكنها من القيام بتدخل بري في حال اتخذت القيادة التركية قراراً بذلك، إذ يكفي لذلك إرسال 4 عناصر يقومون بإطلاق 8 صواريخ على الأراضي التركية انطلاقاً من الأراضي السورية، وفي الأسبوع الماضي ذكرت وكالة الأناضول أن 8 صواريخ كانت قد أطلقت من داعش على منطقة كيليس التركية ولا ندري إذا ما كان الرقم 8 مصادفة أم غير ذلك وفي مطلق الأحوال فقد أضيف إلى الرقم السابق صاروخان أيضاً كانت داعش قد أطلقتهما 12/3/2016، كان الرد التركي على ذلك (كما ذكرت الأناضول) قد اقتصر على قصف مدفعي استهدف مصادر النيران من دون أن يصل الأمر إلى اختراق المحرمات الروسية التي أعلن عنها الرئيس الروسي في كانون أول 2015 عندما تحدى الطائرات التركية محرماً عليها الأجواء السورية.
لم يزل أردوغان يصرّ على أنه لاعب كبير في الأزمة السورية إلا أن تكتيكاته تدل على ضعف الأذرع المستخدمة فيها، فهو ومنذ وقت كان قد عمل على محاربة الخصوم عبر حلفاء له ينتمون إلى النسيج نفسه، فقد دفع (مثلاً) بالفرقة 31 لمحاربة قوات سورية الديمقراطية لأن الأغلبية الساحقة في كلا الفصيلين هي من الأكراد وهم يشكلون القوة الضاربة في كليهما الأمر نفسه كان قد استخدمه في معارك كوباني- عين العرب عندما سمح بمرور أكراد كردستان العراق لمساندة المدافعين عن المدينة في محاربة داعش حتى إذا ما استطاع أولئك المدافعون النصر كان هناك توازن كردي- كردي يجعل من اقتراب الحزب الديمقراطي الكردي من الحدود التركية أمراً مستحيلاً.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن