ثقافة وفن

قرنوا الأم بالوطن وربطوا بينها وبين الأرض … رسخها كيالي من قعر المجتمع السوري الفقير.. وفتش المدرّس عن ملامح صورة والدته في وجوه القرويات

| وائل العدس

شكلت المرأة عموماً، والأم خصوصاً، الموضوع الأساس في نتاجات المبدعين، على اختلاف وسائل التعبير التي يشتغلون عليها، بدءاً من الشعر، والموسيقا، والأدب، والفن التشكيلي، وانتهاءً بالصورة الضوئية من سينما، وتلفزيون، وإنترنت.. وغيره.
واستأثر موضوع الأم باهتمام مزاولي اللغات التعبيرية التقليدية التي رافقت بواكير الحياة الإنسانية، واستمرت مع متعاطي الإبداع، باللغات البصريّة الثابتة والمتحركة، التي جاءت مع التطور المذهل، لوسائل الاتصال المعاصرة، وانخراطها في الموضوعات الإنسانية الشفيفة التي اختزلت القيم الاجتماعية النبيلة والرفيعة والخالدة، في الحياة عموماً، وحياة الكائن البشري خصوصاً، وفي طليعتها يأتي موضوع (الأمومة) الذي تجسده صورة الأم مع أطفالها، ضمن حالات ووضعيات مختلفة، لكنها جميعها، تفضي إلى قيم إنسانية راقية وحميميّة وصادقة وجميلة هي: التضحية، الإيثار، الوفاء، الحنو، الحب، الدأب، التفاني، النضال، الإخلاص والعطاء بلا حدود.
رؤى متعددة

بتعدد رؤى وأساليب وتقانات الفن التشكيلي، تعددت صورة الأم، في الأعمال التي عالجتها. فبعض الفنانين التشكيليين صورها بشكل مباشر، تحنو على طفلها، أو تضمه إلى صدرها، أو تقوم بإرضاعه من ثديها بحنان وشغف، أو تلاطفه وتلاعبه وتعلمه، أو تهز له المهد، أو تنظفه، أو ترعاه وتناغيه، أو تحمله على ظهرها، أو في حجرها، أو تعانقه، أو تدافع عنه، أو تقاتل دفاعاً عن وجوده وعن بيتها.
ومنهم من عكس موضوع الأم بكل تفاصيله من الرموز والدلالات والقيم النبيلة، بشكل غير مباشر، مسقطين عليها معاني أسطورية مزجت بين الواقع والخيال، بهدف إظهار تعلقهم بهذا الرمز الذي وصل لدى البعض منهم حد التقديس، لما يمثله من قيم، فالأم نبع الحنان الذي لا ينضب، والبحر الذي لا يتعب من العطاء، وهي الصورة المثلى لنكران الذات والتضحية والتعب الصامت السعيد والعظيم.

الأم والوطن والأرض
وهناك من وجد في وقفتها الباسلة والمساندة لزوجها وأطفالها، في البيت ومكان العمل وأمام الأخطار الداهمة، رمزاً آخر من رموز وفائها وتضحيتها، كما ربطوا بينها وبين الوطن، فقرنوا اسمها باسمه، وهو ما جعلها تتحول إلى مرادف له، وإلى رمز خالد من رموزه. فهي أم الذين سقطوا من أجل أن ينهض الوطن ويبقى مصوناً، عزيزاً، كريماً، حراً، قوياً.
كما ربطوا بينها وبين الأرض، فالأم خزان الحياة الذي ما فتئ يضخ الحياة منذ وجدت الحياة، والأرض الوعاء الحاضن لمسببات استمرار هذه الحياة وديمومتها، تماماً كما هي الأم، صانعتها ومركز تناسخها وتجددها واستمرارها.
على هذا الأساس، صور الرسامون في رسومهم ولوحاتهم ومحفوراتهم المطبوعة الأم نداً للأرض وشبيهاً لها. فكما الأرض تنبت الحياة، وتوفر سبل العيش للإنسان، كذلك الأم، من حوضها تتدفق الحياة وتستمر، فهي صانعتها ورمز تجددها وتعاقبها.
هذه القيم العظيمة المجسدة في الأم، دفعت المبدعين كافة، وفي كل الأحقاب والأزمنة والأمكنة، إلى تخليدها في إبداعاتهم، وإبراز فضلها ودورها المهم في الحياة، محاولين بذلك، رد بعض جميلها. كان هذا على الدوام، في كل زمان ومكان، وسيبقى هذا الرمز الخالد، حتى نهاية الحياة، موضع تقدير وتقديس وتبجيل واحترام المبدعين كلهم.
في أعمال المبدعين، تحولت الأم إلى أنقى وأجمل وأعظم رمز في حياة الكائن البشري، واحتضنت أدفأ العواطف الإنسانية، واختزلت أنبل مهمة في الوجود. ولأن كل مبدع معني مباشرة بها، لأنها أمه، وزوجه، وأخته، وابنته، ورفيقته، وزميلته، وصديقته، فقد انعكست صورتها في نتاجه، على درجة عالية من الشفافية والصدق والحميمية والسمو شكلاً ومضموناً.
كانت الأم وما زالت في مقدمة الموضوعات التي تناولتها اللغات الإبداعية الإنسانية المختلفة، منذ صيرورة الإنسان الأولى وحتى يومنا، وهي باقية كذلك، ما بقيت الحياة، واستمر الوجود، وبقي الإنسان.
جميع العصور

موضوع الأمومة ظهر في مراحل الفن البدائي في مرحلة العصر الحجري الحديث لكن هذا التعبير لم يمح البعد الروحي وإنما كان الموضوع عبارة عن شكل فني فقط نظراً لواقع الإنسان آنذاك في المجتمع البدائي، وظهر في الحضارة القديمة المصرية، ما بين النهرين والهند والصين واليابان، ولم يكن له أي بعد تعبيري جار وإنما كان مجرد رسم امرأة مع طفل وزوج الفرعون، القيصر مع زوجه وأطفاله تحدد اسم المرأة وزوجها.
أما في العصور الوسطى فقد كان موضوع الأمومة ظاهراً على شكل مفهوم ديني أي كلوحة «المادونا» أو «أم السيد المسيح»، هذا الموضوع كان يحمل الصفة الدينية أو الأيقونة في الفن البيزنطي والروحي حيث نراها تحمل الطفل الذي يعانق أمه كلوحة «السيدة العذراء»، أو كما في أعمال الأيقونات في المدارس الروسية التشكيلية ومن أشهر رساميها «روغلوف» لكن فنانيها لم يوقعوا أعمالهم فبقوا غير معروفين.
في عصر النهضة أخذ مضمون الأمومة البعد الفلسفي والنظرة الشخصية فرسم كل فنان في عمله شخصيته وبعده الفكري والفلسفي، فأصبح موضوع (المادونا) ليس موضوعاً دينياً فحسب وإنما رسموا النسوة اللاتي عرفن من قبلهم، وكن الأمهات والوجوه الشرقية وخرجوا عن قوانين الأيقونة التي كانت تفرض مجموعة الألوان، ورسموا الأخوات على سبيل المثال رسم «فليبو ليبي» نحو مئة لوحة بعنوان (مادونا) ورسم قبلها زوجه وطفلة، وكانت هذه اللوحات متشابهة وقريبة من بعضها من حيث الأسلوب والموضوع.
أما في بدايات القرن العشرين وبداية الحرب العالمية الأولى ثم الثانية فقد رسمت الأعمال الحزينة، فقدان أم لولدها، أو الأم وهي تدافع عن أطفالها ضد الحرب والجوع والمرض والفقر.

سورياً
رسخ الفنان السوري لؤي كيالي صورة الأم والطفل المنبثقة من قعر المجتمع السوري الفقير بأسلوب لوني متقشف، أما فاتح المدرس فقد ظل طوال حياته يفتش عن ملامح صورة والدته في وجوه القرويات في الريف السوري حيث اكتشف جمال الطبيعة وآلام الفراق التي لازمته طوال حياته، ولعل الأحداث الأخيرة أعادت للأذهان الصورة المجيدة لأم الشهيد.

أصدق الأعمال
إن مراجعة متأنية لإبداعات الفنانين التشكيليين التي تناولوا فيها موضوع الأم، نجد أنها كانت أصدق الأعمال وأرقى الإبداعات التي تفتقت عنها رؤاهم وخيالاتهم. فهم معنيون مباشرةً بهذا الموضوع. عاشوه بكل جوارحهم وأحاسيسهم، لذا ظل موضوع الأم متوقداً في أحاسيسهم، لصيقاً بمراحل حياتهم كلها، وحاضراً في كل ركن ومحطة من حياتهم.
من أجل هذا، جاء تعبيرهم عنها غنياً بالعواطف الشفيفة، مفعماً بالقدسية والصدق والاحترام والتقدير.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن