قضايا وآراء

الخطوط الحمراء في معركتي الأمن والسياسة… والباقي تفاصيل

| فرنسا – فراس عزيز ديب

منذ انسحاب القوات الروسية من سورية، سال حبر الكتَّاب والمحلِّلين للحديث عن هذه الحادثة التي شكلت مادةً دسمةً لهم. لكن بعضَهم بدا كما المُقامِر الذي يجلس على الطاولة فيخسر، ثم يطالب بإعطائه فرصةً جديدةً عساه يعوِّض ويثبت أن تحليله رصين و«معلوماته» دقيقة، لكنه ما يلبث أن يخسَر من جديد، علماً أن حلبة الصراع كانت حافلةً بالأحداث التي ربما هي أهم بكثيرٍ من مسألة الانسحاب الروسي- الجزئي- هذا دون أن نستثني فرضية أننا في منطقة متشابكة لا يمكن فيها فصل الحدث عن الآخر.
هذه الأحداث وتشابكاتها نجح الأمين العام لحزب اللـه السيد «حسن نصر الله» في حديثه الأخير بأن يفصِّلها، لأن كلامه- أياً كان موقفك السياسي منه- لم يتضمَّن معلوماتٍ مهمة فحسب، لكنه نجح أيضاً في توجيه رسائل مبطنةً وعلنية، فكيف ذلك؟
بما يتعلق بالمعلومات، فإن «نصر الله» وضعَ حدَّاً لكل التحليلات السابقة عن «توقيت وآليات الانسحاب الروسي من سورية»، فلا السوري منزعجٌ لأنه لم يُستشَر كما روَّج البعض، ولا الإيراني لم يهضم الفكرة كما أكد البعض الآخر، بل إن «نصر الله» عاد لفترة ما قبل التدخل الروسي في سورية وأكد أن هذا الأمر تم الإعداد لهُ منذُ أشهر قبل البدءِ بهِ، وهو كلامٌ تطابق مع ما ذكرناه في «الوطن» قبل بدء التدخل الروسي في مقالٍ بعنوان (بين الصمت الإيراني والقلق «الإسرائيلي»: ماذا لو صدقت مقولة مبارك؟) بأن تأكيد وليد المعلم أن سورية ستدرسُ أي طلبٍ روسي لإرسال قواتٍ، قابلته يومها تصريحاتٌ من الكرملين بأنهم سيدرسون إجراء كهذا، هو نوعٌ من «أخذ العلم لمن يهمه الأمر»، «قد» يُفضي فعلياً لإرسال هذه القوات، وهو ما تمَّ بعد ما يقارب الشهر. أما في الرسائل، فبدا واضحاً أن «نصر الله»، تولّى مسألةَ لجم الكيان الصهيوني، فالردٍّ على أي حماقةٍ سيتجاوز الخطوط الحمراء، لكن هذا الأمر لا يبدو جديداً، الجديد والأكثر أهمية هو حديثه التفصيلي عن توضع المستودعات والمعامل والمختبرات المتعلقة بكل ماله علاقة بالصناعاتِ الكيماوية أو المفاعلات النووية، وما يمكننا تسميته اختصاراً «إلى ما بعد بعد خزانات الأمونيا».
من السذاجة الظن أن «نصر الله» حاول فعلياً تنبيه سكان فلسطين المحتلة لخطر وجود هذه المستودعات والمعامل بالقرب من المدن، الرسالة في بُعدها الحقيقي تبدو من ضمن الرسائل الأمنية التي يجري عادةً تبادلها بين أي طرفي «نزاع»- إن جاز التعبير-، وعندما يتحدث «نصر الله» عن قدراتِ المقاومة للوصول لبنكِ الأهداف أولاً وآليات الردع المتطوّرة ثانياً، فهذا الأمر يجعلنا نتساءل: إذاً وماذا عن قدرات الدولتين الرئيسيتين الراعيتين لهذه المقاومة؟
هذا الأمر لا يجعلنا ننكفئ لنحلِّل فقط ما قاله «نصر الله»، هذا الكلام يجعلنا نعود سنواتٍ لمرحلةِ مفاوضات الاتفاق النووي الإيراني مع الدول (5+1)، يومها كان الكيان الصهيوني يهدِّد ليل نهار بقصف المفاعلات الإيرانية، بل إن هناك من وضع سيناريوهات كاملة لهذه الحرب، وكأنَّ الأمر ينتظر الضغط على زر الإطلاق، لكن «إدارة أوباما» كانت تقول في السر ما تقوله في العلن، إنها لن تشارك في هذه الغارات، ليس لأنها تعي أن الحل السلمي هو أفضل الحلول، لكنها كانت تعرف ما قد ينتظر الكيان من مجازفةٍ في حال أقدم منفرداً على ذلك.
فهل هناك من لا يزال يشك أن الكيان الصهيوني راضٍ عن الاتفاق النووي لأنه أهون الشرين، وأن كل «مرجلات نتنياهو» هي لذرِّ الرمادِ في العيون أولاً، ولجعل حالة الغليان في المنطقة مستمرة ثانياً! وإلا كيف ستتابع مشيخات النفط سياسة تدمير الأوطان إذا لم يكن لديها حليف كالكيان الصهيوني يتوعد إيران ويهددها؟
أما الرسالة الثانية فهي تأكيده لرفض «حلفاء سورية» فكرة حلٍّ سياسي يُجبر الأسد على الرحيل. هي رسالةٌ بأن المعركة ليست معركة خطوطٍ حمراءٍ في «الأمن» و«العسكر» فقط، لكنها أيضاً معركة خطوطٍ حمراء في السياسة. هذه المعركة السياسية وضع «نصر الله» خطوطها الحمراء كحزبٍ، وليس كدولةٍ، «فما بالنا بالدول»، فهل أن هذا الأمر هو رسالةٌ لديمستورا وللمعرقلين لـ«جنيف 3» بأن ما لم يتم أخذه بالقوة، لن يتم الحصول عليه بالسياسة؟
لم يكُن مستغرباً الحديث عن وصول وفدٍ أميركي لإدارة المفاوضات بدلاً من «معارضة الرياض»، والتنسيق للرد على ما يُسمى أسئلة ديمستورا الـ«29». إذا أردنا أن ننظر بحسن نيةٍ لهذه الخطوة، فلأن أعضاء وفد «معارضة الرياض» إما مسؤولون سابقون اعتادوا تلاوة البيانات والخطب التي تؤمِّن لهم الحفاظ على كراسيهم، أو أشخاص هامشيون لا خلفية ثقافية أو سياسية لهم، فتخيلوا مثلاً أن كبيرهم «وهابي» وأحد متحدثيهم مسؤولٌ سابق اعتاد أن يصفق في المناسبات والأعياد الوطنية!
أما إذا أردنا أن ننظر بواقعيةٍ لهذا الأمر، فإن القصة لاتبدو بهذه السهولة، فمن يدقق في الأسئلة يتبين أنها لا تبدو من بنات أفكار المسؤول الأممي، تحديداً أنه يتحدث فعلياً عن «هيئة حكمٍ انتقالية» وليس «حكومة انتقالية»، كما أن السؤالين التاسع والتاسع عشر مثلاً اللذين يتحدثان عن العلاقة بين «هيئة الحكم» ومجلس الشعب أو الرئاسة أو المؤسسات القائمة حالياً يحملان الكثير من التأويلات التي يجب الوقوف عندها، لأنهما عملياً يفترضان تعليق عمل الدستور الحالي الذي ينظم العلاقة بين جميع السلطات الدستورية، أي إنهم يريدون «مجلساً انتقالياً» على هيئة المجلس الذي تم تشكيله في فرنسا مثلاً وأعاد صياغة دستور 1958، لكن على ديمستورا أن يتذكر أن من بين صُناع هذا الدستور كان «ديغول» وما يمثله من تيار سياسي وليس ممثلاً لتنظيمٍ إرهابي أصدر منذ أيام قراراً بمنع «لعبة النرد» لأنها من الملهيات والعياذ بالله!
معروفٌ للجميع أن القرارات الدولية لا تأتي بذكرٍ على موقع الرئاسة أبدا، والمعارضة يبدو أنها لا تزال متمسكة بفكرة الذهاب لجنيف لتسلم السلطة، مدعومة بمحاباةٍ من ديمستورا وكيري، فماذا يريد الأميركي؟
قد يبدو الأميركي حتى الآن يتلاعب كما يريد، فهو من جهةٍ ضد ما يُسمى إعلان فصيلٍ كردي (فصيلٌ كردي وليس الأكراد كما يخطئ البعض) للفدرالية، لكنه في الوقت ذاته ربما يمهِّد لما هو أبشع من الفدرالية. أما الأوروبيون فيبدون بلا أفقٍ حتى بما يتعلق بمكافحة الإرهاب، فلا يكادون يستيقظون من حدثٍ ليصحوا على آخر، وكان هذه المرة الدور على بروكسل وما تمثله من رمزيةٍ كعاصمة لمقر الاتحاد الأوروبي، بل خضعوا بشكلٍ كامل لابتزازات الأتراك الذين لا يبدون بحالٍ أفضل، فتركيا باتت بحالةٍ من «اللاوعي» مع تأكيداتٍ أمنية بأن مُنفذ التفجير الأخير هو مواطنٌ تركي، فقد استعجل الأتراك بإلقاء التهمة على «داعش»، وتناسوا أن «داعش» عادة ما تتبنى كل ما تقوم به، وهي صمتت تجاه هذا التفجير. أما الغليان في الجنوب فمستمرٌ، حتى الصحوة الأردوغانية ومحاولة لملمة ما يمكن لملمته في العلاقة مع سورية لن تنفع، حتى لو بدأت خطواتها العملية. أما «آل سعود»، فليس من باب المصادفة الحديث بأن الملك مصابٌ بالخرف منذ العام 2009، والنزوع نحو التهدئة في اليمن، هو بالنهاية تحضيرٌ وإخراجٌ لما بعد مرحلة «سلمان»، لكن من سيكون كبش الفداء في هذه المملكة الملوثة بالدم؟
أما في سورية، فإننا أمام مفصلٍ مهمٍ متعلق بالتهديدات الروسية باقتراب ساعة الرد على كلِّ من يخرق الهدنة، والرد الأميركي الرافض لهذا التهديد، فالروس متسلحون هذه المرة بما أنجزوه من مصالحاتٍ قد تكون بديلةً عن إخفاق جنيف، فهل أن الرد الأميركي كلامٌ في الهواء أم أنه رفضٌ جدي. ربما كلامٌ في الهواء لأن الأنظار قريباً ستتجه نحو شمال إفريقيا، إلا أن قرروا أن يأتوا هم بجيشهم كما قال لهم «نصر الله»، فهل هم قادرون؟ واهمٌ من يظن ذلك..

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن