ثقافة وفن

العراضات مواكب للرجولة الشعبية

منير كيال:

للعراضة مكانة مميزة في حياتنا الوطنية والاجتماعية، وخاصة ما كان منها في مقارعة المستعمر وما كان في المناسبات الوطنية والمناسبات الاجتماعية التي درج عليها أهل مدينة دمشق وهي في جميع الأحوال موكب جماهيري يؤدي فيه الوصّاف (الهتّاف) أراجيز خفيفة الوزن منسجمة التعابير، تنتظم كلماتها في أسلوب بسيط أليف إلى الأذن قريب إلى القلب ومن جهة أخرى فإن من الممكن القول إن العراضة في مجتمعنا لم تكن وليدة هذا العصر أو ذاك.. إنها تعيدنا إلى أيام العرب في الجاهلية وصدر الإسلام، يوم كان الفارس يرتجز ما يثير حماس القوم من حوله، وبأسهم، ويجعلهم على نحو من الحماس والتحفز والإقبال على الطعان ومباشرة الحرب والقتال.

أهازيج العراضة
تقدّم الأهزوجة في العراضة الشعبية باللهجة المحكية، وهي في جميع الحوال تؤدى وراء الهتّاف الذي تنقاد وراءه جموع العراضة، ولهذه الأهازيج فِعْلَ السّحر في إثارة العواطف وتأجيج المشاعر وبثّ الحماس في نفوس جماهير العراضة دونما تكلّف أو رصف كلام.
فلا يكاد الهتّاف يرسل مطلع الأهزوجة إلى جمهور العراضة حتى يتلقف ذلك الجمهور مقولة الهتّاف ويردّدها وراء الهتّاف بصوت واحد، وعلى وتيرة واحدة، حتى لكأن ذلك الترديد ينطلق من حنجرة واحدة.

موقع الهتّاف من العراضة
غالباً ما يكون للهتاف موقع متوسط من جمهور العراضة، وقد يحمل على كتفي أحد المشاركين في العراضة، فيقوم بالترديد، وتقديم نصّ أهزوجة العراضة وهو يلوّح بكلتا يديه يمنة ويسرة ومن أسفل إلى أعلى ملوّحا ببندقية أو سيف يحمله وهو في حالة انفعالية تأخذ عليه إحساسه وتفكيره، ما عدا ما هو عليه من تلك العراضة.
ولئن شملت مواكب العراضة الشعبية السابقة شتى مناسبات الحياة الوطنية والاجتماعية بل الدينية.. فإن من الممكن القول إن تلك العراضات كانت بمنزلة التعبير الصادق لأحاسيس الشعب وتطلعاته.. وإذا كانت عراضة العرس على نحو من الطرافة في بعض أهازيجها.. فإن عراضة الجوانب الأخرى من الحياة كعراضة استقبال الحجيج وعراضة إحياء ذكرى المولد النبوي كانت على جانب كبير من الرزانة والصدق في التعبير.
ففي عراضة العرس قولهم:
العزابي يا دّله
ما في مين يغسل له
داير على جيرانه
بقمله وصيبانه
صابونته بجيبته
الله يلعن هيبته
وفي عراضة ذكرى المولد النبوي قولهم:
يا إلهي توبتك
فرجك وأوبتك
توبتك عالشيخ رسلان
شيخ رسلان يا شيخ رسلان
يا حامي البر والشام
هوجي يا شاغور هوجي
نحنا شيخنا السروجي
أو قولهم في استقبال الحجيج:
حجّاج مكة ورد علينا
يا مرحبا بالزائرينا
وسلام اكتب سلام
على اللي مظلل بالغمام
والغمامة غمته
غمته ما لمّته
غمته خيفانه عليه
وعلى من زار إليه
وعلى من زار قبره
حجت الإسلام لأجله
أما عراضة المناسبات الوطنية وخاصة ما كان منها في مقارعة سلطات المستعمر، فقد كانت على نحو آخر من الصدق والتعايش مع الحدث.. حتى لكأن الواحد منا إذا تأمل في وجوه جمهور العراضة، فإن له أن يلحظ أن كل خلية من خلال أجسام أفراد ذلك الجمهور تنبض بالتعبير الصادق والتعايش مع الحدث حتى لكأن قسمات وجوههم ومخارج الحروف من أفواههم تكاد تنفجر تحسسا بما تقول أهزوجة العراضة كقولهم:
وإن هلهلت هلهلنالك
صبّينا البارود قبالك
وإن هلهلت يعربية
واحد منا يقتل ميّة (مائة)
وإذا كان الأمر كذلك فلا بد أن يكون نص أهزوجة العراضة متوافقاً مع هذه المشاعر.. وهذا يقودنا إلى القول إن واضع نص أهزوجة العراضة أو مبدعها لابد أن يكون أيضاً على نحو من التحسس بأحاسيس حياة الناس (المجتمع) بحيث يكون نص أهزوجة العراضة صادراً عن قلبه قبل لسانه، حتى يستطيع ذلك النص الصمود وتحدي تخاذل الذاكرة مهما طال أو امتد.
فقولهم في عراضة العرس:
ادللي يا عيني
على عنب الزيني
وادللي يا خاله
على شباب الحارة
لطالعك العالية
العالية قصور البنات
أو قولهم في مقارعة المستعمر:
واسمع شو قال المذياع
عفية (مرحى) يا كدعان الشام
عالحروب مجرّبة
خلينا المستعمر يدور
من الغوطة للشاغور
هادا شغيلك شاغوري
هاد شغيلك ميداني
أو قولهم:
دير المي (المياه) عالصفصاف
رجال الشام بتخاف
دير المي عالطرخون
كدعان الشام ما بتخون
وإذا كان للعراضة الدمشقية أن تتحول من موكب لتشييع شهيد من شهداء مقارعة المستعمر، إلى مواجهة مع قوات الاحتلال.. فإن من العراضات ما تتواكب في احتفالية واحدة كما هي الحال في مناسبة عيد المولد النبوي حيث تلتقي عراضات أحياء مدينة دمشق على صعيد واحد في إطار الجامع الأموي وما يحيط به، أكان في منطقة سيدي عامود (الحريقة) أو سوق مدحت باشا والحميدية وحتى السنجقدار وباب الجابية، ولكن من أطرف ما كانت عليه العراضة الدمشقية تلك الزيارات لعراضة الأحياء المجاورة لها للمشاركة بمناسبة عيد المولد النبوي أو للتهنئة بختان ابن أحد وجهاء الحي والسلام على الحاج بعد أدائه فريضة الحج، وكان الفرسان على صهوة خيولهم يتقدمون بعض تلك العراضات.
وزيارة العراضة للحي المجاور محكومة بأطر من التقاليد متعارف عليها ولا يمكن الخروج عنها فعندما تصل هذه العراضة إلى مشارف الحي المزار تستقبلها عراضة ذلك الحي بالتأهيل والترحيب، وكثيراً ما يرافق تلك الزيارة للعراضة ألعاب السيف والترس في مصلّبة الحي  المزار.
فقد كانت العراضة الزائرة تهتف لدى وصولها إلى مشارف الحي المزار بقولها:
أبلة (بداية) السلام عليكم
فترد عليها العراضة المستقبلة بقولها:
أهلا وسهلا بيلي (من) جاي (جاء)
فيتصدر الضيوف المكان المخصص لهم ويتبادل الجانبان التهاني والتبريك وتدار عليها القهوة العربية السادة (المرّة) والمرطبات من عرق سوس ونحوه، كما قد يتبارى كل من شباب الجانبين في العاب السيف والترس كما قد يتبارى الفتيان في لعبة الحكم حيث تكون العصا بدل السيف قإذا وصلت عراضة الضيوف إلى مصلّبة الحي (ساحة) المزار يُبادر أحد شباب الحي المزار إلى عقد راية الضيوف بقوله:
والعادية (الويل لمن يعادينا)
كان راية.. راية رسول الله البيضاء المجلية
وراية (فلان) (فلان) من وجهاء الضيوف ومن وجهاء الحي المزار
ويختم ذلك بقوله:
وبيض الله وشوه (وجهه)
وتخرج كلمة (وشوه) من الجميع وكأنها من فم رجل واحد ويعقب ذلك إطلاق العيارات النارية ابتهاجاً.
وعند رغبة العراضة الزائرة بالانصراف يختم أحد المشاركين بقوله:
خاطركم رايحين نروح استروا ما شفتوا منا
فيردُّ عليها الحي المزار:
تمسّوا يا ضيوف حيّاكم الله
فيجيب الضيوف بالعراضة.
يخلف عليكم كتر الله خيركم
وما يحلى لي بالمنازل غيركم
وتكون خاتمة المطاف ردّ عراضة الحي المزار لعراضة الضيوف:
مع السلامة والدرب سلطان (بأمان الله)

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن