قضايا وآراء

بين «ليونة المواقف» وسياسة «اليد الممدودة»

| فرنسا – فراس عزيز ديب 

جمودٌ في الأحداث والمتغيرات على المسار السوري كان سمة الأيام الماضية، هذا الجمود لم يخرقهُ إلا مواصلة قوات الجيش العربي السوري والحلفاء التقدُّم باتجاه «القريتين»، وما يُحكى عن تحضيراتٍ تقوم بها «جبهة النصرة» وبعض الفصائل الإرهابية المبايعة لها للهجوم على مناطق شرقي حلب.
لكن في المقلب الآخر، وعلى صعيد التصريحات والمواقف السياسية، فإن هذا الجمود انتفى وكسره حال التخبط الذي يعيشه محور الحرب على سورية، انطلاقاً من التصويب على ما حُكي عن (تفاهمٍ روسي أميركي) خلال زيارة كيري الأخيرة لموسكو تارةً، أو ارتدادات الانتصار السوري في تدمر تارةً أخرى.
في هذا السياق، لم يكن مستغرباً أن يخرج علينا إعلام «آل سعود» بمقالٍ قال إنه استند على معلوماتٍ أميركيةٍ، يتحدث عن تفاهمٍ (روسي ـ أميركي) يقضي برحيلِ الأسد إلى دولةٍ «صديقةٍ» خلال ستةِ أشهر، كجزءٍ من صفقةِ الحل السياسي في سورية. كذلك الأمر لم يكن مستغرباً الرد الروسي على هذه الأكاذيب، تحديداً أن الرد اتجه مباشرةً نحو من ادّعت الصحيفة بأنها استقت المعلومات منه، لكنّ المستغرب أن بعض تجار السياسة والصحافة أخذوا تلك الأكاذيب وبنوا عليها.
بما يتعلق بتجار الصحافة، فهم بدؤوا يتحدثون عن فرضية أنه في عالم الصحافة تسريبات كهذه تتم كنوعٍ من الرسائل غير المباشرة، وهنا نسأل هؤلاء لكونهم يقدمون أنفسهم كأشخاص يقفون على مسافةٍ واحدةٍ من الجميع (دولاً وتكتلاتٍ):
هل تسمى هذه الدكاكين الإعلامية التي تُسبِّح بحمدِ «طويلي العمر» «صحافة»؟ هي لا يصح فيها حتى عبارة «إعلام البترودولار»، لأن هذه التسمية قد تُطلق فقط على ذاك الإعلام «العربي» الذي يتلقى تمويلاً «سعودياً»، لكن هذه الصحيفة وشقيقاتها هي صحف «سعودية» مهما ادعت تمثيلها للعرب في «المغترب». النقطة الثانية إذا كنتم تعتبرون أن صحف «آل سعود» صادقةٌ دائماً بما تسرِّب، فماذا عن المعلومات التي نقلتها يوماً عن ذات المصادر حول إقامة الرئيس الأسد على متنِ باخرةٍ روسية وتنقلهُ بين دمشق واللاذقية عبر (التاكسي هوبتر).
أما بخصوص تجار السياسة، فكان مضحكاً أن يخرج بعض ممتهني السياسة في لبنان ليبنوا على هذه التصريحات آمالهم، بل يدافعون عن دقةِ المعلومات المذكورة، عندها سنصفِّق لهؤلاءِ الشجعان، لكن لا ضيرَ بأن نذكِّرهم ما داموا يؤمنون بصحف كهذه، فالأحرى أن يقوموا بالرد على إحداها، باعتبارها نشرت كاريكاتيراً يسيء للبنان واللبنانيين بكل مكوناتهم عندما اعتبروهم «كذبة نيسان»، مع التأكيد أن الصحيفة لا يمكن أن تتجرأ وتتواقح على بلدٍ بكامله لو لم يكن ممولُوها يعتبرون هذا البلد إحدى واحاتٍ مرابِط نوقِهم، تُرى هل ستتفَتَّق المراجِل، أم إنهم سيصمتون كالعادة؟
قطعاً سيصمتون، بل سيحمِّلون «حزب الله» مسؤولية هذا التطاول، لأنه لو لم يتدخل في سورية لما كانت الصحيفة أهانت دولة بكاملها، ولكن بتساؤلٍ منطقي: لماذا يصر «آل سعود» على كسر كل الجسور مع لبنان؟
القصة لم تعد قصة معاقبةٍ لـ«حزب الله»، هي وصلت بالأمس لحد إغلاق مكاتب إحدى القنوات الإخبارية التابعة لـ«آل سعود» (طبعاً نهنئ من يعنينا أمرهم في لبنان بهذا الإغلاق)، فلماذا لا يقرر «آل سعود» كرد فعلٍ رفع سقف «الحرد» وقطعَ العلاقات الدبلوماسية، أم إن وجود السفارة ضروري! أولاَ لدفعِ المعلوم لمستحقيه، وثانياً كوكرٍ للتآمر قد يقود «داعش» للانتصار على «النصرة» في «جرود القلمون» وبداية دخولها الرسمي إلى لبنان؟
ربما هناك فرضية أخرى مرَرْنا عليها منذ أسابيع؛ لكنها اليوم فيما يبدو بدأت تنضج في ذهن الأميركيين و«الإسرائيليين» مع تواصل الهزائم هنا وهناك، قوامها أن من يحصل على سورية يصبح لبنان بالنسبةِ له تحصيلَ حاصل: هي استثمار في المعركة السياسية حول مستقبل سورية، تكفل وجود فريق «14 آذار سوري».
نتفق مع الفكرة القائلة إن «آل سعود» لم يُمنحوا موهبة التفكير، لكن كل هذا الأمر يتم في إطار التحضير «الإسرائيلي» لمرحلة ما بعد أوباما، إن كان لجهة تأكيد أقطابٍ معارِضةٍ على التودد نحو الكيان الصهيوني، أو الولاء المطلق لـ«آل سعود». نحن الآن تجاوزنا مرحلة «كمال اللبواني» أو «فريد الغادري»، نحن الآن بمرحلة ربيب «آل سعود» «أحمد الجربا» الذي أكد حتمية فتح قنوات اتصالٍ مع الكيان الصهيوني، وطبعاً عندما يصل بالتصريح لهذا المستوى فإن القنوات فُتحت وانتهى الأمر، كيف لا وعرّاب حزبه الجديد «محمد دحلان»!
أما رئيس وفد معارضة الرياض «أسعد الزعبي» فهو ذهبَ أبعدَ من ذلك عندما تحدث من يريد «جلب الديمقراطية للشعب السوري» بأن السوريين لن ينسوا ما قدمه لهم «آل سعود» (حتى لو ماتوا من أجلها فهو قليل). لن نسأله لماذا لا يأتي إلى سورية ويحارب إلى جانب التنظيمات الإرهابية الممولة من «آل سعود» وعندها يحقق مراده، لكننا سنجيبه باسم من نمثِّل من سوريين (لا يحق لأحدٍ ادّعاء الحديث باسم السوريين ككل)، بأننا فعلياً لن ننسى ما فعله «آل سعود» بنا، وليس لنا، تحديداً أننا مُتنا بسببهم، لكنّ مثلكَ من يليق بهِ أن يموت لأجلهم.
كل ما يحدث الآن من تموضعاتٍ تثبت أن المعركة السياسية انطلقت رسمياً وهي أقسى من المعركة العسكرية لأنها معركة أفكارٍ، ومعركةٌ بوجه مَن يعتبرون الانتماء للوطن مجردَ وجهة نظرٍ، أو يعتبرون الوطن كعكةً كبيرةً عليهم اقتسامها كلٌّ حسب طموحاته. على سبيل المثال فإن الذي استُثني -مؤقتاً- من محادثات جينيف يهدِّد السوريين بأن «إسرائيل الشمال» ستكون أمراً واقعاً، فقوات الجيش العربي السوري لن تدخل المناطق التي فيها مرتزقته إلا بموجب اتفاقٍ رسمي، وحُكماً فإن الاتفاق الذي يحلم به يجب أن يضمن له بالحد الأدنى التفرّد بالمناطق التي يسيطر عليها، وربما فرضَ تأشيرة دخولٍ على باقي المواطنين الدين يحملون الجنسية السورية. أما «معارضة الرياض» ومن يلوذ بها فهو يهدِّدنا منذ الآن بأن «إسرائيل الجنوب» ستكون أمراً واقعاً، فهل فهمنا الآن لماذا يصرون بما فيهم الدول الغربية على اختصار المعارضة السورية بـ«وفد الرياض»؟
بين هذا وذاك خرج كلام الرئيس الأسد لوكالة الأنباء الروسية ليزيل العبء عن الوفد الرسمي السوري لمحادثات جنيف، والذي يطالبه البعض بما يسمونه (المزيد من الليونة). كلام الرئيس الأسد تجاوز مرحلة الليونة لما يمكننا تسميته «اليد الممدودة»، منحته اللغة الدبلوماسية الكثير من العبارات التي تضع الآخر أمام مسؤولياته، فمثلاً هو لم يقل (لن نطبق الفدرالية)، بل قال: (إن سورية صغيرةٌ على الفيدرالية). الأسد اعتبر أن كل التفاصيل المتعلقة بالدستور الجديد لن تكون موضع خلافٍ، حتى إن اليد الممدودة وصلت لإمكانية إجراء انتخاباتٍ مبكرة في حال اتفق الشعب السوري على ذلك. هي مناورةٌ ذكيةٌ وضعت الكثير من النقاط على الحروف، وبطبيعة الحال فإن كلام الأسد هو بمنزلة وثيقةٍ سيتسلح بها الوفد الرسمي بما فيها الحديث عن الدول صاحبة الأولوية في إعادة الإعمار، بمعنى آخر:
خارج إطار وحدة سورية وعلمانيتها وسيادتها لا يوجد لدينا سقفٌ للتفاوض، فهل أنتم جاهزون؟ ربما ليسوا جاهزين، فأول ما سيرفضونه هو علمانية الدولة لأنها ستعني حُكماً قطع الأذرع الوهابية من سورية إلا إن كنا نظن أن الأمور ستعود لسابق عهدها من خلال ما يُسمى «العلاقات الأخوية»، ربما هذا الأمر أكثر ما يخيف المواطن السوري، تحديداً بعد ما قالته الدكتورة «بثينة شعبان» بأن الانتصار في تدمر سيفتح المجال للعمل العربي المشترك! هل ما زال هذا الكلام قابلاً للتطبيق حقاً؟.
شرطَ تحقيقه هو زوال تلك الحكومات التي صبَّت قراراتها في مصلحة الكيان الصهيوني، فمن سيسمح بسقوطها؟!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن