قضايا وآراء

روسيا وتركيا والصراع على المياه الدافئة

| جميل مراد 

منذ تشكل الظروف الملائمة لقيام الإمبراطورية الروسية ونشوء الوعي الإستراتيجي الروسي تشكلت لدى القادة الروس قناعة تامة بضرورة الحضور في البحر الأبيض المتوسط لأسباب عديدة من أهمها حماية خطوط التجارة مع بلاد الشام حيث ك: إن الروس يستوردون الديباج والحرير الدمشقي والتوابل ومستلزمات الكنيسة من البخور والمر.
إضافة إلى تنامي الدافع الديني الذي تشكل مع سقوط القسطنطينية في أيدي العثمانيين وانهيار الإمبراطورية البيزنطية فظهرت نظرية تقول إنه على روسيا أن ترث مهام الإمبراطورية البيزنطية بحماية مسيحيي المشرق الخاضعين في ذلك الوقت لاحتلال الدولة العثمانية.
إن أي توجه روسي إلى مياه المتوسط كان لزاماً عليه أن ينطلق من الموانئ الروسية على البحر الأسود ولكن البحر الأسود في ذلك الوقت كان يعتبر بحيرة تركية خاضعة بشكل كامل لسيطرة الأسطول العثماني إضافة إلى خضوع شبه جزيرة القرم للنفوذ العثماني أيضاً ومن المتعارف عليه بأن من يرد السيطرة على البحر الأسود فعليه أولاً أن يسيطر على القرم.
فاشتعلت الحرب بين البلدين عام 1768 وفي خضم هذه الحرب انطلق الأسطول الروسي من بحر البلطيق إلى المحيط الأطلسي واجتازه إلى المتوسط والتقى بالأسطول التركي في بحر ايجة فقامت معركة خليج تشيسما وأسفرت عن تدمير الأسطول التركي بشكل كامل وسيطرة الروس على بحر إيجة ثم توجه الأسطول إلى بيروت ورسا في مينائها.
انتهت الحرب عام 1774 بتوقيع معاهدة كيتشوك كينارجي التي تنص على انفصال القرم عن الدولة العثمانية لتصبح دولة مستقلة تحت النفوذ الروسي كما قررت المعاهدة حرية الملاحة للسفن الروسية في البحر الأسود وأن يكون لها الحق في عبور المضائق بين البحر الأسود والبحر المتوسط، كما منحت المعاهدة لروسيا حق رعاية السكان الأرثوذكس الذين يعيشون في البلاد العثمانية.
حققت الإمبراطورية الروسية ما كانت تصبو إليه ولكن بقيت المضائق على البوسفور حلماً يراود كل حاكم روسي حيث حاول آخر قياصرة روسيا نيكولاي الثاني أن تكون المضائق ومدينة إسطنبول من حصة روسيا عندما بدأت الدول الغربية بتقاسم تركة الرجل المريض (الدولة العثمانية) ولكن جاءت الثورة البلشفية لتخرج روسيا من الحرب العالمية الأولى وحرمتها من كل مكتسبات المعركة.
بدأ لينين حكمه بدعم قيام الجمهورية التركية ظناً منه أنه قد يستطيع جذبها نحو المعسكر الشيوعي فقدم لكمال أتاتورك كل أنواع الدعم المادي والعسكري والدبلوماسي واعتبرت هذه الفترة قمة التقارب الروسي التركي حيث يعترف أتاتورك أنه لولا الدعم الروسي لما قامت الجمهورية التركية. وبتوجيه من أتاتورك شخصياً نجد تمثالين لشخصيتين سياسيتين سوفيت إلى جانب تمثال أتاتورك نفسه ضمن نصب الجمهورية التذكاري في ساحة تقسيم في إسطنبول هما كليمنت فوروشيلوف مفوض الشعب لشؤون الدفاع وسيميون ارالوف أول سفير روسي في تركيا. اللذان لعبا دوراً مهماً في صياغة هذا التقارب.
ومع نهاية الحرب العالمية الثانية والتقدم الكبير الذي حققه الجيش الروسي الذي انتشرت قواته في أغلب دول أوروبا الشرقية وصولاً إلى برلين، حاول الرئيس الروسي جوزيف ستالين إعادة إحياء الحلم القديم والمطالبة بقاعدة عسكرية روسية على البوسفور ولكن الدول الأوروبية الغربية مدعومة بالولايات المتحدة الأميركية رفضوا مناقشة هذا الطلب علماً أنهم وفي أوقات سابقة خلال الحرب كانوا قد قدموا إشارات حول أحقية روسيا في السيطرة على المضائق ولكن وبعد نهاية الحرب تبين أن الأوروبيين استخدموا موضوع المضائق في الحربين العالميتين كطعم لإبقاء روسيا حليفة في الحرب وبات من الواضح أن علاقة أوروبا بروسيا كانت تتحسن كلما احتاجت أوروبا لقوة روسيا العسكرية والبشرية حيث لعبت روسيا في الحربين العالميتين دور العمق الإستراتيجي لأوروبا.
لم تحظ روسيا بموطئ قدم على المتوسط حتى عام 1971 حيث وافقت سورية على إنشاء قاعدة تموين وصيانة للأسطول الروسي في ميناء طرطوس وتمت إعادة تأهيلها عام 2008 بعد فترة من الركود أعقبت انهيار الاتحاد السوفييتي، وجاء هذا القرار عقب توتر العلاقات بين روسيا والغرب بسبب الأزمة في جورجيا.
مع صعود الرئيس فلاديمير بوتين وسيطرته على الأوضاع الداخلية في روسيا، وعودة احتمالية بروز روسيا الاتحادية كقطب دولي جديد، عادت الأوضاع الجيوسياسية لتفرض نفسها من جديد على الساحة الروسية حيث بدأ حلف الناتو بالانتشار في أوروبا الشرقية ليكمل الطوق على روسيا عبر تركيا واكتملت الرؤية بعد ظهور الجماعات التكفيرية على أعقاب أحداث ما يسمى الربيع العربي والدعم التركي لهذه الجماعات الذي بات يشكل تهديداً للأمن القومي الروسي، عاد الصراع الروسي التركي إلى الواجهة من جديد وتجلى بشكل واضح بعد إسقاط تركيا للمقاتلة الروسية.
على ما يبدو أن الرئيس بوتين قد استفاد بشكل كامل من دروس التاريخ فبدأ طريقه من القرم وهذه المرة لم تعلن كدولة مستقلة تحت النفوذ الروسي وإنما أعاد ضمها لروسيا بشكل كامل وأكمل الطريق نحو المتوسط.
بالعودة إلى معاهدة كيتشوك كينارجي وعلى الرغم من أن الدولة العثمانية لم تخسر بها سوى مساحة قليلة من الأرض ولكنها رفعت روسيا إلى مصاف الدول العظمى وأنزلت تركيا من القمة إلى القاع وبدأت مرحلة وصفها المؤرخون بأنها بداية عصر الانحطاط، وبات الإصلاح واجباً للبقاء فكان من المنطقي البدء بإصلاح الجيش ليتولى إصلاح الدولة.
إذا كنا من أنصار فرضية «التاريخ يعيد نفسه» فإن المشهد الدولي قد قارب على الاكتمال وتركيا اليوم لم تعد ممراً للإرهاب فحسب بل أصبحت أرض إرهاب يضرب عمق الأمن والاقتصاد لذلك علينا أن ننتظر متى سينفد صبر الجيش التركي على طيش حاكم أنقرة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن