ثقافة وفن

إبداعات العصر أم تسليع ثقافي؟

| د. خلف الجراد 

من الأساطير المروجة في العالم أن وسائل الإعلام الغربية عامة، تتسم بالحيادية والموضوعية والموثوقية. ومع أن الصحف الكبرى هناك والمعروفة بدقتها ومصداقيتها تعترف بين الحين والآخر بوقوعها في أخطاء مهنية كبيرة وحتى بانزلاقات أخلاقية خطيرة، إلا أنها تظل تؤكد للجمهور أن تلك الأخطاء الحاصلة ليست عيوباً جوهرية في نظم نشر المعلومات السليمة بصفة أساسية، وهي ليست سوى حالات جزئية طارئة أو نقائص فردية لدى هذا المحرر أو ذاك. أما الحقيقة، كما يؤكد هربرت. أ. شيللر، مؤلف كتاب (المتلاعبون بالعقول) أن وسائل الإعلام (الصحافة، والدوريات، والإذاعة والتلفزة) هي جميعاً بلا استثناء مشروعات تجارية، تتلقى دخولها من الاستغلال التجاري لمساحتها الزمنية، أو المكانية لمصلحة الإعلانات، فمن الواضح أنها لا تثير أي مشكلة بالنسبة لهؤلاء الذين يدافعون عن «موضوعية»، و«نزاهة» الهيئات الأميركية العاملة في حقل الإعلام (شيللر، المتلاعبون بالعقول، ص 17).
والواقع أن شركات العولمة العملاقة تقوم وبتعاظم سريع بإغراق المجتمعات العالمية المختلفة بسيل من الرسائل التجارية الناشئة عن متطلبات تسويق الشركات متعددة الجنسيات الأميركية في أغلبها. حيث يجري تحويل بنية شبكات الاتصال الأميركية الداخلية وما تقدمه هذه الشركات من برامج طبقاً لمواصفات جهات التسويق العالمية. فشهية شركات الإعلان لا تعرف الشبع، كما أن هدفها ليس أقل من السيطرة الكاملة على كل وسيلة من وسائل الاتصال الجماهيري، وبمجرد نجاحها في إخضاع وسيلة من الوسائل، أياً كانت الصفات الأصلية لتلك الوسيلة، فإنها تتحول إلى أداة «للثقافة التجارية».
ويشار في هذا السياق مثلاً إلى «وكالة الإعلان الأميركية» العاملة على النطاق العالمي، التي تملك مئات الفروع في قارات العالم المختلفة والعواصم والمدن الكبرى، تصل أرباحها إلى مليارات الدولارات، متجاوزة الدخل القومي لعدد من الدول النامية مجتمعة.
وخلال العقود الثلاثة الأخيرة عرفت الرسالة الإعلانية المشبعة، المستفزة للمشاعر، أو ذات الأثر السلبي المضمر، طريقها إلى وسائل الاتصال العالمية. فأجهزة الإعلام هي الوسيلة المثلى للتوصيل وتشكيل الوعي، ولاسيما التلفاز الذي يستولي على عقل ولا وعي المشاهد العائد من عمل استغرق طوال يومه، فيستسلم لوسائل الإعلام الممولة من الشركات الصناعية- التجارية الكبرى، عبر مسلسلات أو برامج معاونة للإنتاج التجاري بصورة مباشرة أو غير مباشرة. وتذكر صحيفة روسية أن أكثر من 80 بالمئة من المسلسلات المكسيكية الشهيرة والمعروفة عالمياً، جرى تمويلها من خلال قنوات شركات الإعلان الأميركية الكبرى وفروعها المنتشرة على نطاق واسع في المكسيك وأميركا الجنوبية والدول الإفريقية والآسيوية.
وتؤكد دراسات بحثية أكاديمية ذات مصداقية عالية أن الرأسمالية العالمية بنموذجها الراهن لم تعد تكتفي بالاستحواذ على الأسواق التجارية والاستهلاكية العالمية، وإنما اتجهت بصورة متعاظمة وممنهجة للاستيلاء على العقول والأذهان، وتسليع الفكر والثقافة على نطاق واسع وشبه شامل. وقد خلصت الأبحاث الاجتماعية- النفسية بهذا الشأن إلى أن ما يشاهده الناس وما يقرؤونه، أو ما يستمعون إليه، وما يرتدونه وما يأكلونه، والأماكن التي يذهبون إليها، وما يتصورون أنهم يفعلونه، أو الآراء التي يعبرون عنها لمؤسسات استطلاعات الرأي… كل ذلك أصبح وظائف تمارسها أجهزة إعلامية تقرر الأذواق والقيم التي تتفق مع المعايير والتوجهات الخاصة التي تفرضها وتعززها مقتضيات السوق والربحية والهيمنة. بل إنه حتى نظام التعليم الرسمي والمؤسسات والبنى شبه التعليمية أصبحت تركز على خلق حالة من القبول الشعبي بأهداف وقيم «الاقتصاد السلعي».
ورغم التشدّق الزائف حول السعي الأميركي- الغربي القوي من أجل « حق الشعوب في تقرير مصيرها» وتجسيد هوياتها الوطنية الثقافية، إلا أن واقع التسليع الثقافي- الإعلامي يقدم أدلة دامغة وعيانية يومية على «تنميط» و«نمذجة» المنتجات الثقافية، التي لا يتوانون عن إدراجها ضمن تصنيف «السلع» على مستوى الكرة الأرضية كلها، مثل الموسيقا والأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية، وأنواع محددة من الملابس (التي يطلق عليها وصف «الماركات العالمية») والأطعمة، وصولاً إلى نماذج معمارية متطابقة في قارات ومناطق مختلفة من العالم (في نيويورك ولندن وباريس وشنغهاي وطوكيو.. إلخ).
حيث يجري تعميم وترسيخ علامات تجارية محددة، وأذواق فنية وثقافية، وممارسات سلوكية فردية وجماعية عبر وسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية المتطورة والموجهة ولو بصورة غير مباشرة أو مفضوحة، إلى أن صارت تتمتع اليوم بذيع هائل، ودلالة زائفة على «الحضارية» و«العصرية» و«الثقافة الرفيعة» و«الحرية الواسعة».
ويتساءل في هذا الموضوع المقلق عدد من الباحثين الغربيين وغيرهم: هل «كوكا كولا» و«ماكدونالدز» و«الجينز» و«مايكروسوفت» و«الآي. بي. إم» و«دالاس» و«مايكل جاكسون» و«فرق الجاز الزنجية» وغيرها.. مجرد سلع وأذواق انتشرت عالمياً بفضل بساطتها وأصالتها ورقيها.. إلخ، أم إن المسألة تجارة وتسليع وتنميط واستخدامات تنتمي إلى ثقافة معينة تسعى لإقصاء وعزل وإزاحة الثقافات والقيم الأخرى، رغم كل الادعاءات والمزايدات الإعلامية حول حق الاختلاف، ودعم ثقافات وقيم الشعوب وهوياتها الخاصة في مواجهة المراكز العالمية المسيطرة اقتصادياً وتجارياً وإعلامياً وتقنياً؟!.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن