ثقافة وفن

من كرومك خمرتي والشعر!! نظم.. وعامية.. وتكرار وإسفاف بالمال العام! … د. العطار: إن الشعر أولى بالتمكين من المحال ومطاعم الشاورما

| إسماعيل مروة

يطرح كثيرون تساؤلاً مشروعاً: هل هناك شعر؟ ويتبعونه بأسئلة تثير الحساسية: لماذا بهت الشعر؟
وهل هناك من يتابع مسيرة نزار والصوفي وأدونيس والماغوط والعيسى؟ أين الشعراء الذين يحملون لواء الشعر؟ وما الشعر؟ وأسئلة كثيرة، وبداية لابد من الاعتراف بوجود عدد غير محدود من الشعراء كما يرى الشعراء الكبار الراحلون، فسليمان العيسى يرى الشعراء بعدد حبات الرمل، ولكن لمَ لا نسمع بهم، ولمَ لا تصلنا أشعارهم؟ هل يضلون الطريق إلى المؤسسات الثقافية؟ هل يجدون منبراً ثقافياً؟ هل هناك من يحول بين أشعارهم والجمهور؟
ومن بين الإجابات المحتملة أن ما يتم نشره بطريقة خاصة أو رسمية قد ينفر من الشعر والشعراء، فقد نقف عند شعر (فيسبوكي) لا يتعدى أن يكون خواطر عنّت لكاتبها ذات لحظة، وهو لا يعرف عدد البحور الشعرية، ولا يعرف التفعيلات! وثمة شعر نقف عنده يتبع كل قواعد الشعر، لكنه يفتقد الشاعرية، وهي الأهم والأعلى، وهذا ما أطلق النقاد العرب عليه صفة النظم الذي لا روح فيه.

مثال صارخ
منذ أيام وصلتني مجموعة (من كرومك خمرتي) للشاعر محمود حبيب، والكتاب يخلو من أي تعريف بالشاعر، ولست أدري إن كان من الشعراء الشباب أم من الشعراء أصحاب التجربة! إلا أن القصائد والكلمات التي قبلها توحي بأن الشاعر من الكبار في السنّ، فنحن أمام قصائد إخوانية قدمها أو رثى بها شخصيات من الرفاق الراحلين، وهذا يوحي أنه شاعر بلغ من العمر والتجربة مرحلة متقدمة، فهل كان الديوان كذلك؟
استغربت أن تنشر وزارة الثقافة ديواناً من أوله إلى آخره من الشعر الخليلي التقليدي، فتبادر إلى ذهني مباشرة أن هذه الأشعار وبعنوانها (من كرومك خمرتي) تقارب أشعار أبي نواس في وزنها وموضوعاتها، وقد تمثل جديداً في الطروح والموضوعات، وإلا ما قامت الوزارة على طبعه ونشره، وهي التي وضعت من معاييرها إضافة الأبعاد الفكرية والفنية للعمل المقدم للنشر!
وبعد القراءة وجدت المجموعة مثالاً صارخاً في النشر على مطابع وزارة الثقافة، مخالفاً لكل القواعد الفكرية والفنية!
النظم لا يصنع شعراً

القراءة الأولى أظهرت لي أن الشاعر من دارسي الأدب، ولست أدري صحة كلامي، وأنه من الدارسين القدامى، وظهر ذلك جلياً من القصائد الأولى، وفي هذا أمر يحتاج إلى معالجة، ولا يغيب عنا أن شعر المعلمين والفقهاء على السواء ليس شعراً بالمعنى الشعري، ولذلك فإن شعر الشافعي لم يلق حظاً شعرياً واكتفي بالجانب المتعلق بالحكمة والموعظة، ولكن الشاعر في المجموعة لم يجنح إلى الحكمة بقدر ما جنح إلى إبراز ذاته وشاعريته، والمشكلة أنه يعتقد بتفوقه وشاعريته، ويعمد إلى تضمين القصائد اسمه الحقيقي، وهذا يحميه من سرقة نتاج قريحته! وما فعل ذلك الشعراء، وإن اعتدوا بأشعارهم.

من شعر محمود الحبيب.. لصالح
عهداً بعطر محبتي مشفوعاً
ما دمت أقدر أن أزورك ها هنا
سأظل للعهد القديم مطيعاً
إن كان جدك في (البقيع) مقامه
فهنا بنينا للنضال (بقيعا)

كل ما قدمه الشاعر أنه أضاف (الـ) التعريف إلى اسمه، ليضمن ألا تسرق هذه الأشعار! وكان الأولى به عند الطبع أن يشرح مفهوم البقيع ومن المقصود به، ومرموزية البقيع عند أصحابها! وهذه أول مرة أقع على شعر لشاعر يذكر اسمه كاملاً، ويسبقه بلفظة الشعر، ويعطي حكماً نقدياً على إبداعه! ربما كان هذا البيت هو الدافع الأهم لطباعة المجموعة الشعرية.

ما يثير النزعة المذهبية
منذ نشوء الهيئة العامة للكتاب تمّ الاعتراض على طباعة كتب تثير النزعة المذهبية والطائفية، وبسببها تم تغيير كادر الإشراف على الهيئة مرات، ولعل آخرها، ويذكرها الجميع ما دار حول الاختيارات التراثية من رحلة (ابن جبير) والتي جاء فيها ما يثير في صفحة واحدة، وأنا ضد نشر مثل هذه القضايا حتى وإن كانت من التراث، فالتراث مليء، والانتقاء يدل على المنتقي، وأذكر أنني وقفت في «الوطن» مع كتاب (سورية في كتابات مستشرقين روس) منذ عقد من الزمن، وقلت يومها: قد يملك الحرية في نشر هذه الكتابات ناشر خاص، أما أن تنشر على مطابع وزارة الثقافة، وعلى حسابنا، فذاك أمر مرفوض تماماً، ووصفت يومها بأقسى النعوت، ليتبين بعدها صواب ما ذهبت إليه في «الوطن»! ومع ذلك، لو وجد الوعي لنظر إلى ذلك على أنه تراث يقرأ وينتقد، وعندما جاءت الإدارة الجديدة في الهيئة عملت على تخليص الكتب من كل رائحة لمثل هذه النزعات.. وعندما قرأت مجموعة (من كرومك خمرتي) وجدت الأخطر، فإن كنت أعترض على التراث وأجد الحجة، فما بالي عندما أجد من يعيد إنتاج الفتنة إبداعياً، ليقول لي: أنا أعيش ذلك الماضي وأرثه؟! بل تقوم الوزارة العتيدة بطبعه وتوزيعه وتسويقه وتجميله!!

لأني في السقيفة لم أشارك
ولا أحد لمؤتمر دعاني
لأني لم أقد جملاً لحرب
ولم يقتل برأبي مسلمان

ما للقارئ اليوم وللسقيفة؟ ما له لهذه الموقعة؟ ألا يعدّ ذلك غمزاً من موقعة تاريخية معروفة للجميع، ومن شخصية دينية ذات مكانة؟؟!! إن يك الموقف صحيحاً، فماذا يضيف هذا الشعر المهلهل للقارئ- مهما كان انتماؤه ورأيه- إلا إثارة النعرة؟! أم أننا لم نفهم مايريده الشاعر.
أما وقعة صفين، والتحكيم إلى المصاحف، فقد جاءت في المجموعة أكثر من مرة، ولا أريد أن أثقل على القارئ الكريم في إيرادها، فقريحة الشاعر النظمية تتجاوز الأبيات المعدودة، ولا يجوز الاستشهاد بنص مجزوء، وأترك للقارئ، وللوزارة الكريمة الحريصة على الوحدة الوطنية أن تعود إلى المجموعة لتقرأ وتعلم كيف وجدت هذه المجموعة طريقها إلى النشر، وهي تغصّ بالإساءات، وإن كانت مغلفة ومواربة في كثير من الأحيان!

الحشود والإسفاف
انظر معي إلى النظم والحشو في مطلع هذه القصيدة، ومقدار ما يضيفه تعداد الأسماء من إبراز مقدرة شعرية، ربما انتشيت، وطلبت من الشاعر أن يعيد عليك لتنتشي أكثر:

يا وعد يا إقبال يا إلهام
يا هند يا أسماء يا إنعام
يا منتهى يا دعد يا ميمونة
يا عزة يا رند يا أحلام
يا زينب وبثينة ورقية
وزبيدة وعليّة وهيام

ويبدو أن هذا الأسلوب الرائق الدال على العبقرية والصورة الشعرية التي غابت عن شوقي وأدونيس راق للناظم، ولجمهوره، فعاد إليه من جديد في قصيدة أخرى:

يا سليمى يا زينب يا دلال
يا سعاد يا دعد يا اعتدال
يا ندى يا بثينة يا أماني
يا لبينى يا وعد يا إقبال
يا ابتسام يا هند يا انتصار
يا ربا يا رباب يا امتثال
يا صبا يا جهينة يا هويدى
يا سهام يا منتهى يا منال

تذكر الناظم أسماء، وحتى لا تعتب عليه الأسماء أعاد ذكرها وأضاف وقدّم وأخّر.
وتحت عنوان (لابد من التوضيح) تبدو مهنة الشاعر التعليم، فيتحدث عن فضله على الأجيال، وأين منها قصيدة شوقي للمعلم؟! فتلك تعلي شأن المعلم، وهذه تعلي شأن الأنا وتسيء إلى جيل الطلبة، ولا أدري كيف مرّ القارئ- إن وجد- على هذه القصيدة، التي يبدو فيها الناظم نبياً في قوم لا يقدرون، وهو الذي خرّج المسؤولين والقيادات؟!!
لا نائب أو وزير كان أو رتب
لو لم نهبه إلى العلياء مفتاحا
كل القيادات لولا فيض نعمتنا
مرّت على هامش التاريخ أشباحا
إنا لنرعاهم حتى إذا كبروا
عقوا الحليب وعافوا الكرم والراحا

انظر معي إلى هذه الصورة القائمة على الشتم والقدح، ولم ينج منها إلا الذين لم يعلمهم، لكنهم كذلك ليسوا بشيء!
لن أقبس مما جاء في الشتم والإسفاف الذي لا يليق بالإبداع والشعر، لأنه قد يخرج أحدهم ويظن أن الاستفزاز من الهزّ عندما تسمع الشعر، فيقول لي (ألم يهززك عند سماعه)؟ ويستدل على ذلك بأنه شعر! إذا كان في ديوانه يقول هذا، فما عسانا في مجالسه؟!
السوقية والعامية والأجنبية

أزعم أن هذه المجموعة لم تمر في القنوات الطبيعية، ولو كان القارئ من المبهورين بالشاعر، فإنه لن يعطي إذناً بقراءتها وليس طباعتها، فالمجموعة تغص بالأسماء الأعجمية، والتراكيب الأجنبية، وأغلبها جاء مقصوداً لذاته ممجوجاً.. وانظر معي إلى الأجنبية والعامية معاً، وتمتع بإعجاز الشعر:

ورثت بعد كوندليزا هيلاري
عرب الخزي والولاة استقالوا
أهدى السيف والعباءة والدر
ع أوباما وصوّر الاحتفال
هلل المسلمون دار أبي سفـ
ـيان غصت واللي دخل نيالوا
كبروا فالخليفة ابن أبيه
قادم (وابن أمه) شو عبالوا

بربكم هل تصدقون أن وزارة الثقافة السورية صاحبة التجربة تطبع هذا الإسفاف وهذا الغمز وهذه العامية؟ إن صدّقتم (نيالكم) واللي طبع لا يعنيه شيء (شو عبالوا) أقتبس أسلوب الشاعر انبهاراً بما ملكه من أسلوب لا يجارى.

وأختم ببيت حكمة لم يسبق الناظم إليه:
ستبقى الشام عاصمة التحدي
وحزب الله عيني حزب الله

هل يكفي الاستفهام والتعجب؟!
هل يكفي الإنكار؟!
إن أي مطرب شعبي من الدرجة الألف لن يصل إلى ما وصل إليه الناظم في هذه المجموعة، لكن الخرق اتسع على الراقع، وضيقت الوزارة وهيئتها على جوانب، وزادت ثقوب المصفاة بجوانب أخرى! بقي أن أشير إلى أن كل هذا الإبداع بحدود أربعمئة ليرة فمن يشتري؟!
السيدة الدكتورة نجاح العطار نائب رئيس الجمهورية، رئيسة لجنة تمكين اللغة العربية، هل وصلك مثل هذا الشعر؟! أليس الشعر والفكر أولى بالتمكين من متابعة محلات الألبسة وبائعي الشاورما؟! إن لم تقرئي أرجو أن تطلبي هذا الديوان المميز!.
السيد وزير الثقافة: أرجو أن تطلب هذه المجموعة الرائدة في بابها، وخاصة أنك شاعر مشهود له، ودرس شعره باحثون مثل عبد الكريم الناعم، ولتنظر في الأمر من بابين، أولهما مسؤوليتك عن الوزارة ومطبوعاتها والذوق العام، وثانيها شاعريتك التي لاشك فيها.. وبانتظار الجواب، والنص يقارعه النص، وما جئت به مطبوعاً لا جدال فيه، ولا أظن أنني شاعر لأنظم وأتبلى عليه، وإن فعلت فنيّالي صرت شاعراً!! صدقني بعد القراءة رأيت كل ما أقوله شعراً.. ولك كل الاحترام.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن