قضايا وآراء

من يجرؤ على التهديد؟

| عبد المنعم علي عيسى

«من شأن صمودك أن يؤدي إلى تفكك معسكر أعدائك ومن ثم إلى اقتتالهم فيما بينهم» تلك جملة اختطها نابليون بونابرت في رسالة كان قد وجهها إلى أحد قواده يدعوه فيها إلى الصمود الذي سيغيّر كيمياء الخصوم بالضرورة.
لكم تبدو تلك النصيحة عابرة للجغرافيا وللتاريخ على حد سواء لتصبح صالحة لكل مكان وزمان ولعلها تتجلى بأوضح صورها في حالتنا السورية، فها هو الصمود السوري الأسطوري يؤدي – وقد أدى- إلى تفكك العديد من الخلطات وها هو قاب قوسين أو أدنى للدخول في الشق الثاني الذي جاءت به الرؤية البونابارتية.
شهد الأسبوع الماضي ثلاث محطات قد تبدو منفصلة عن بعضها إلا أنها مترابطة عضوياً فيما بينها وجميعها تعتبر في سياق وصية نابليون السابقة الذكر.

المحطة الأولى:
إعلان وفد الرياض عن تعليق مشاركته في مفاوضات جنيف 19/4/2016 على خلفية كلمة السر التي أطلقها عادل الجبير قبل 24 ساعة حينما قال: «إن المملكة سوف تدعم مطالب الشعب السوري حتى النهاية» لم تكن تلك الخطوة برضا أميركي تام فقد أعلن باراك أوباما من الرياض 21/4/2016: «إن حل الأزمة السورية يتطلب منا التفاوض مع من لا نتفق معهم» على حين أن الاستياء الروسي وصل ذروته ما دفع بوزير الخارجية الروسي إلى اعتبار «أن انسحاب متطرفي وفد الرياض من المفاوضات هو أمر صحي 22/4/2016، وفي التداعيات تبدو الأزمة السورية اليوم أشبه ما يكون كما كانت عليه في آب 2015 عندما كانت التحضيرات الروسية حثيثة للإعلان عن عاصفة السوخوي 30/9/2015 وهو ما عبر عنه (بن رودس) نائب مستشار الأمن القومي الأميركي الذي حضر مع رئيسه قمة الرياض حين قال: «إن واشنطن قلقة من جراء تقارير تشير إلى قيام روسيا بنقل عتاد عسكري إلى سورية»

المحطة الثانية:
هي القمة الخليجية- الأميركية إن صحت التسمية المنعقدة في الرياض 20/4/2016 والتي رشح عنها مؤشرات عديدة تشير إلى اعتماد واشنطن لحدود جديدة فيما بينها وبين الأنظمة الخليجية رسمها (بن رودس) بشكل واضح عندما قال: «إن الصفحات الـ(28) المغيّبة عن التقرير الصادر غداة أحداث 11 أيلول 2001 تطول مسؤولين سعوديين كانوا قد سهّلوا عمل الإرهابيين»، إلا أن العلاقة الأميركية الخليجية الجديدة لا تقوم فقط على الاتهامات التي باتت تكيلها واشنطن للرياض بدعم الإرهاب، إلا أنها تقوم على أرضية متغيرة للمصالح الأميركية عما سبق، فلا النفط اليوم بتلك الأهمية التي كان عليها قبل عقود وبدائله باتت تنتظر على سكة الاحتياط إشارة المدرب للدخول إلى الملعب، ولا المملكة تحظى بتلك الهيمنة التي كانت تمارسها على سوق النفط العالمية، فاللاعبون الجدد. قلّصوا من أهميتها مثل إيران- والنفط الصخري، وعليه فإن القلق الخليجي بات يتعدى بكثير المخاوف الناجمة عن التقارب الأميركي- الإيراني الأخير وهو يصل حدوداً بدا أن واشنطن حريصة على رسمها ومفادها أن الأمن الخليجي لم يعد اليوم يشكل هاجساً أميركياً كما كان الأمر عليه في السابق، فأي درك يمكن أن يكون أكبر من الدرك الذي ذهب إليه عادل الجبير عندما أعلن عن أن بلاده ستجد نفسها مضطرة لسحب الأصول التي تمتلكها على الأرض الأميركية؟ ولربما عملت الديبلوماسية الأميركية لإجبار الحليف السعودي على «إفراغ» كل ما تحتويه الذهنية السعودية في بواطنها عبر التداولات التي يشهدها الآن الكونغرس الأميركي لاستصدار قرار يجيز للقضاء الأميركي طلب مسؤولين سعوديين للتحقيق معهم في التهم الموجهة إليهم في أحداث أيلول 2001، والمهم هنا هو كيف تنظر الرياض لتلك المسألة؟ وهل ترى فيها ابتزازاً وصل حدوداً غير مسبوقة؟ أم أن الأمر يتخطى ذلك بكثير؟ والأهم من كل ذلك هل يظن الجبير أن بلاده بقادرة على تنفيذ تهديدها؟ وهل يظن أيضاً أن واشنطن سوف تضع مسألة من هذا النوع وعلى هذه الدرجة من الأهمية التي قال خبراء أميركان عنها: إنها مسألة أمن اقتصادي أميركي ولربما عالمي بأيدي العابثين من أمراء الخليج؟
العلاقة الأميركية- الخليجية الجديدة يفترض أن تكون تداعياتها إيجابية على الأزمة السورية أقله في كونها ستكبح جماح المغامرين الباحثين عن أدوار وسط تلال الركام أو تلال الجماجم.

المحطة الثالثة:
هي في الحديث الذي أدلى به وزير الخارجية القطري السابق حمد بن جاسم لصحيفة الفايننشال تايمز البريطانية 20/4/2016 والذي لم يكن ينقصه لكي يكون إخباراً جنائياً سوى نقطتين اثنتين الأولى هي تحديد «الضوء الأخضر» ومن يكون صحيحاً أنه معروف إلا أن الإيماء هنا لا يكفي والثانية تحديد الزمن الذي حدثت فيه الجريمة (التي لا تزال مستمرة) حيث يقول بن جاسم بأنها كانت في عام 2012 عندما تقرر أن تتولى الدوحة الملف السوري قبل أن تتغير الأمور وتندفع الرياض لتولي القيادة دافعة بالقطريين إلى المقاعد الخلفية، وهو قول ليس صحيحاً، والصحيح هو أن البداية كانت في نيسان عام 2011 ولعلنا نجزم فنقول إنها كانت يوم الجمعة 15 نيسان 2011 عندما تبدلت لهجة الجزيرة القطرية تجاه الأحداث السورية إذ لطالما كانت هذه الأخيرة الناطق الرسمي باسم الإمارة القطرية، ليخلص الوزير القطري إلى القول: من كثرة الطباخين احترقت الطبخة!!
هل يدرك حمد الثمن الذي دفعته شعوب ودول وكيانات بسبب طبخته المحروقة؟ ثم هل يعتقد أن الحجم الذي تمتلكه قطر قادر على احتمال تقرير مصير ليبيا الذي باتت عليه في فندق شيراتون الدوحة الذي احتوى ذلك الاجتماع العاصف بعد يوم واحد من صدور قرار مجلس الأمن 1973 (18 آذار 2011)؟ ثم هل يدرك أن طبخته المحروقة خلفت مئات الآلاف من السوريين قتلى ومثلهم من المعوقين وملايين المشردين ونصف ما تبقى من الجياع؟ ثم هل يدرك أنه كان يعمل على الدفع بالقضية الفلسطينية إلى غياهب النسيان؟ أو أنه عمل مع آخرين على تجريم كل من سوف تسول له نفسه أن يرفع بندقية بوجه تل أبيب أو الغرب؟
سيفتح ملف قطر بالتأكيد لكن متى وكيف من الصعب التنبؤ بذلك وإن كان ليس من الصعب التأكيد على قيام الحدث.
بقي أن نشير إلى أمر مهم في حديث بن جاسم جاء في معرض ردّه على طبيعة العلاقة الأميركية الخليجية، فقد قال إن تلك العلامة وعلى مدار ثلاثين عاماً لم تكن متوازنة فقد عملت دول الخليج على خفض- أو رفع- أسعار النفط تبعاً للمصالح الأميركية: والسؤال: أيّ معنى يبقى لسيادة الأنظمة الخليجية على ثرواتها؟ ثم أي مشروعية تبقى لتلك الأنظمة التي تمارس دور الوكيل على الأرض والبشر والحجر؟
حديث الأمير القطري يشير إلى توجه أميركي يسعى نحو تعميق الشرخ الحاصل بين الدوحة والرياض والعمل على قيام حالة استقطاب للوصول إلى قطبين كاملي المقومات داخل مجلس التعاون الخليجي تمهيداً لمتغيرات جيوسياسية وديمغرافية تمهد لها واشنطن في الضفة العربية من الخليج، فمجرد تجرؤ الديبلوماسية السعودية على رفع صوتها مهددة بما لا تملكه أو تقدر عليه هو أمر يصعب أن يمرّ من دون عقاب.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن