ثقافة وفن

الثقافة بوصفها قضية إستراتيجية

| د. خلف الجراد 

إذا أريد للثقافة أن تقوم بدور محوري في ترسيخ القيم الحضارية والوطنية والقومية والسيادية والإنسانية، فيجب أن يتم الاعتراف بها كمسألة إستراتيجية بالمعنى العميق لهذه الكلمة، وليست مجرد وسائل ترفيهية لتزجية الفراغ أو لإبعاد الملل وتخفيف قسوة الحياة وظروف المعيشة القاسية، ومنغصات الاقتصاد والغلاء والبطالة والفقر وغيرها.
انطلاقاً من هذه الرؤية، فإن مسألة الثقافة يجب ألا تنحصر في «نخبة» أو فئة صغيرة محدودة العدد والنسبة مهما بلغت فاعليتها والدور المعطى لها في البنية الاجتماعية- الاقتصادية- السياسية القائمة. وبرأينا المتواضع فإن الأسرة هي أولى المؤسسات المجتمعية المنتجة للثقافة بمعناها العام، ويتجلى دورها في نوع التربية التي تتوارثها الأسرة من جهة، وتكتسبها من محيطها الاجتماعي من جهة ثانية. أما المؤسسة المجتمعية الأخرى المعنية بزرع أسس معرفية- ثقافية- تربوية مشتركة فهي المدرسة بمختلف مراحلها التعليمية. وإن لم تتكامل المؤسستان (الأسرة والهيئة التربوية- التعليمية) فسيضيع الأبناء أو يبحثون عن مصادر أخرى لقيمهم وثقافتهم وتوجهاتهم، وأخطر ما في الأمر أن يجد الفتى أو الشاب نفسه تائهاً أو منعزلاً أو وحيداً في عالمه الصغير وتحت وطأة وسائل الإعلام والاتصالات المتطورة التي تضخ له آلاف المعلومات والأفكار والاتجاهات، فتأخذه إلى حيث تشاء بعيداً عن أسرته وبيئته ومجتمعه وهويته الثقافية الوطنية، التي نشأ عليها وورثها منذ مئات السنين، إن لم تكن هذه الوسائل منطلقة من أسس وطنية وقومية واضحة المعالم والتوجهات.
إن ذلك كله يحتاج إلى تخطيط واسع وإستراتيجية وطنية، لا تكتفي بالشكوى من غرب لا يعير ثقافتنا أي اهتمام جدي، أو يدفع باتجاه هيمنة ثقافته وقيمه الاستهلاكية على مجتمعاتنا، بل تفرض اعتراف الآخر بثقافتنا الخاصة ودورها في الحضارة الكونية ماضياً وحاضراً.
وفي هذا السياق يتساءل المفكر المغربي المعروف علي أومليل: كيف تفرض ثقافتنا العربية اعتراف الآخر بها؟ ذلك أن اعتداد ثقافة بذاتها وبقيمتها، ليس وحده كافياً للاعتراف لها بذلك، فهل لثقافتنا قيمة تبادلية في «سوق» الثقافات؟ إن وضعها الحالي ليس كذلك. وبرأيه لكي تكون كذلك لا بدّ من شرطين: الأول أن تسندها قوة اقتصادية وسياسية، وهو شرط غير متوافر الآن. والثاني أن تكون ثقافة حداثية. والحداثة لا تعني بالضرورة التغريب، بل أن تكون ثقافة معاصرة، تصاغ بمنطق العصر، وأن تتخذ موقع الندية قياساً إلى الثقافات المعاصرة المتقدمة، حتى يكون الحوار والتفاعل معها ممكنين (علي أومليل، سؤال الثقافة: الثقافة العربية في عالم متحول. المغرب، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2005، ص 75-76).
لكن المشكلة تتجلى في أن المثقفين العرب الذين يصنفون أنفسهم كـ «ليبراليين جدد» يقفون كما هو معروف ضد ثقافة أمتهم، التي يعدونها «متخلفة» أو معدومة القيمة والأهمية، سواء على مستوى مجتمعاتنا أم على مستوى العالم. فهي بحسب مزاعمهم «من مخلفات عصر الإيديولوجيا والمثاليات.. واللغة الخشبية.. إلخ»، إضافة إلى تركيز هؤلاء إلى ضرورة تقليص دور الدولة الوطنية في كل المجالات والقطاعات، بما في ذلك الثقافة والتربية والتعليم طبعاً. على حين يرى عدد من الباحثين والمفكرين الموضوعيين أن دور الدولة الوطنية ما زال مطلوباً في البلدان النامية، فانحلالها يعني إشعال الحروب والصدامات بين مكوناتها الخاصة (قومية أو عرقية أو طائفية أو مذهبية). ودورها مطلوب في مجتمعات هشة هي في حاجة إلى دعم الخدمات العامة من صحة وتعليم وثقافة وجيش وتجهيزات بنيوية أساسية.
فالموقف الصحيح والجدي ليس التراجع عن مستوى الدولة الوطنية إلى كيانات مشتتة قزمة باسم الخصوصية والهوية، وليس القفز الهمجي فوقها وراء سراب «دولة الخلافة» الكبرى، بل تعزيز الدولة الوطنية كياناً تعاقدياً جامعاً لكل مكوناتها وعناصرها وتنوعاتها التضامنية – التفاعلية، المتكافئة في جميع الحقوق والواجبات!!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن