ثقافة وفن

أزمة الكتاب هل هي وليدة اليوم أم ماذا؟! … لم يبتعد الشباب عن الكتب فجأة ولم تخل القاعات من روادها فجأة فقد سبقت إنذارات لم نفهمها

| د. ناديا خوست

الحرب على الثقافة

في يوم الكتاب السوري، وسط اللوحة المبهجة التي رسمتها الأحلام بعودة الكتاب إلى مكانته، تذكرنا المحاضرات التي كانت تواكب معرض الكتاب. أيام كان «التسوق» الثقافي ممتعاً، والمواطن السوري يستطيع شراء عدة كتب من المعرض، والمعرض نفسه مبهج بأنواره وكتبه. ألغت الحرب ذلك التقليد، ولجمت نشر الكتب وقراءتها. وفي السياق قصفت معرض الزهور ومهرجان السينما والمسرح. صرنا في مكان آخر تشغلنا هموم الأمن الوطني، والهموم المعاشية، وتلسعنا مشاكل لم نتصور أن تنقل إلينا من حروب العصابات في أميركا اللاتينية وإفريقيا: خطف الأطفال، والعصابات الإجرامية، والتجارة بالأعضاء البشرية والمخدرات، وتهريب الصبايا إلى بيوت الرقيق. سددت منظمات الفكر التكفيري العسكرية والسياسية، الحرب على الثقافة والهوية والوجدان. نسفت الأبنية التاريخية والأضرحة والكنائس والجوامع القديمة، واجتهدت في تهريب ثمار الحضارة. وفي السياق حوصر الكتاب السوري والعارضون السوريون في معارض الكتاب العربية.

استعادة القراءة

ليس الكتاب خارج هذا الدمار الدامي. في أيام الأمن الغذائي، والأمان الاجتماعي والسياسي، كانت الثقافة «حاجة عليا»، انتشرت المراكز الثقافية والمتاحف في أنحاء سورية، ورأينا غرفاً في قرى صغيرة بعيدة حاضراً فيها كتاب وباحثون. تزيّن الليل الأمن بمسرحيات وأمسيات موسيقية. ونشرت وزارة الثقافة سلاسل التراث والرواية والقصة والتاريخ بأسعار رخيصة. ونشر اتحاد الكتاب بعض كتب مهمة. وكانت مخازن بيع الكتب رابحة.
لم تنقلب تلك الصورة البراقة فجأة. لم يختف الشباب من مخازن بيع الكتب، فجأة، ولم تخل قاعات الثقافة من روادها فجأة. بل تراكمت قبل ذلك إشارات لم نشأ أن نسمع فيها نواقيس الخطر. فانحسار القراءة لا ينفصل عن المنظومة الأخلاقية الاستهلاكية التي نشرها اقتصاد السوق، والوضع المعيشي، والتسرب من المدرسة، وتسلل الفكر الوهابي. تفرض علينا تضحيات السوريين وغيبوبة الثقافة خلال الحرب، ألا نعبر عن هذه المسائل بسرعة.

تؤسس مكانة الثقافة في المجتمع مكانة الكتاب. يوم ينشغل المجتمع بورشة التنمية التي تحتاج إلى أشخاص مؤهلين بالمعرفة، يتقدم المثقف والأستاذ الجامعي على رجل الأعمال والسمسار. ويؤسس ذلك منظومة المعايير الأخلاقية المناسبة: تقدير الإنسان المنتج المختص، وتقديم المعرفة، والاعتزاز بالهوية الوطنية واللغة العربية. وينسج ذلك التجانس الاجتماعي، وتنتشر الكتب، ويزهو الشاب بأنه قارئ، وتصبح منجزات الثقافة في محور الانتباه.

مع ذلك، لا تبحث بخفة مسألة الفراغ الفكري التي أشار إليها الرئيس بشار الأسد، ومن التعبير عنها انحسار الكتاب. فالبنية التحتية التي أسستها وزارة الثقافة في أنحاء سورية، في فترة التنمية، كانت محظوظة زمناً بإدارة جيدة. لكن الحياة تقدم دائماً حاجات جديدة تطلب ارتقاء البنية الإنسانية لتلبيها. يبدو أن ذلك تعثر، ثم وصلنا إلى مرحلة لم تعد فيها الثقافة حاجة عليا. نتناول مثلاً بسيطاً على المسافة بين الحاجات والروتين الذي جرت فيه المؤسسات. أصدرت وزارة الثقافة، قبل أن يصبح الأستاذ عصام خليل وزير ثقافة، كتاب أحد عملاء المخابرات المركزية. فيه بين صفحة وأخرى الادعاء بأن اليهود أسسوا الحضارة العربية. وينتهي بالتأكيد أن لا شعب في العراق وسورية فتلك تسمية استحدثها الغرب خلال رسم خريطة المنطقة! كان لدى الهيئة العامة للكتاب، في الوقت نفسه، كتاب «أوغاريت أول الأبجدية»، ترجمته يمام بشور، المختصة بالترجمة من جامعة ليون، مرافقة أهم الوفود الرسمية السياحية الأوروبية والكندية التي استضافتها سورية. لم ينشر الكتاب، على الرغم من أهميته والحاجة إلى معلومات عن الآثار خلال الحرب. على حين لبّت كلية الهندسة المعمارية الحاجة الوجدانية العامة، والصوت الإنساني المفجوع بجرائم العصابات في تدمر، فنظمت بالتعاون مع مديرية الآثار، ورشة عمل قدمت معلومات ووثائق عن آثار تدمر والمجتمع المحلي، و«مخطط حماية المنطقة الأثرية والمتنزه الطبيعي» التدمري بعد التحرير. وعرضت صور تدمر ومنحوتاتها في بهو الكلية، فأحاطت بها الطلاب، وأمتعت بها النظر وثبتتها في الذاكرة.
لو قسنا حركة المؤسسات بالمعيار الحيّ المتصل بالحاجات الوطنية والوجدانية، وضرورة ارتباط الكلمة بالفعل، لطبع الكتاب المذكور وعرض في بهو كلية العمارة خلال الورشة العلمية عن تدمر، وفي مكتبة الأسد خلال الاحتفال بيوم الكتاب السوري. ولأعيدت طباعة كتاب خالد الأسعد عن تدمر، فدعم التعريف بالمدينة الأثرية، ونشر ذلك الكتاب المفيد الممتع.
يوحي هذا بالحاجة إلى الانتقال من لغة «الإنشاء» إلى العمل، لنفحص أزمة الكتاب، ونضع نهج القراءة على أساس ما لدينا من معلومات. فالغد لا يدار كما أدير الأمس. لا غنائيات وارتجال، بل معرفة ومشروع عمل! لا يقال «الكتاب»، دون التساؤل: أي كتاب؟ في أي هدف؟ ولمن؟ فقد استخدمت الحرب على سورية أيديولوجيا وهابية تكفيرية. ولا بد من مواجهتها بمنظومة فكرية أخلاقية مناقضة. لا بد من نهج تجتمع فيه دور النشر الخاصة ووزارة الثقافة، ينعكس في معرض الكتاب القادم. ذكر الرئيس بشار الأسد أن الفكر التكفيري لا يقاوم فقط بالعمل العسكري بل بالعمل الفكري. تلبية هذه الحاجة الوطنية والوجدانية فردية، تواجه كل باحث وكاتب. وعامة تفترض مشروعاً وطنياً منظماً لتحصين الوعي.

تصحيح الرؤية

يبدأ ذلك من استعادة الثقافة مكانتها. كان إغلاق عدة مخازن كتب في دمشق إشارة إلى تغيير في منظومة القيم يشهد على انحسار الثقافة. خبا المسرح. وقدمت المسلسلات التلفزيونية كأنها هي الثقافة. لم يؤد الممثل والمغني القصائد والأعمال الكبرى، بل استعاض عنها بمؤلفاته. ما الذي يحصّن المدنيين؟ مسلسلات باب الحارة، وصبايا، والغربال، والخيانات الزوجية أم البنية الروحية التي تربيها الثقافة بالمعرفة والفنون، والاعتداد بالإرث الحضاري والهوية؟ يفترض تصحيح الرؤية وربط منظومة القيم بالحاجات الوطنية. كي لا تبدو الثقافة كمالية، أو تزيينية، بل كما هي في الحقيقة: خندق مركزي في الدفاع الوطني! فهي التي تؤسس وحدة الشعور والذوق ومنظومة المعايير الأخلاقية، فتنسج لحمة الشعب وتدافع عنها. هدف الاختراق الثقافي كسر هذا النسيج. في مرحلة التمهيد، يجرّده من عمقه الحضاري، ويضع المعاصرة مقابل التراث، فيقصّ من الهوية الوطنية جذورها التاريخية. فيبدو مثلاً أن السوريين القدماء شعوب لا علاقة لها بالمعاصرين، وأن الآثار والملاحم السورية شغف أجنبي. ويجب أن نستلهم عمارتنا وأساليبنا الأدبية من ناطحات السحاب لا من التراث المعماري السوري والملاحم السورية. بعد قصّ الجذور، ينتقل الاختراق إلى تفكيك الهوية الثقافية الجامعة، والوهم بهويات إثنية أو مذهبية، ثم تجهز الحرب والفوضى والجوع على الفرد والمجموعة.
تواجه الثقافة هذه الأخطار بتشريب الوجدان بالهوية الحضارية. ولدينا المؤهلات والواقع! أليس من حظنا أن الآثار التدمرية الفاتنة التي هز الاعتداء الوحشي عليها الضمير الإنساني، صاغها معماريون سوريون؟ وأن معلولا الآرامية تحفظ خطوات مار تقلا، وتدهش حتى اليوم أجيالاً من الزوار والفنانين؟ وأن لدينا ديوان الشعر العربي القديم؟ تسند الثقافة بنهج معرفي شامل، الوجدان العام الذي تلامسه واجهات الأبنية التاريخية، وصور المدن الحجرية والكنائس القديمة والأديرة، وما يستقر في الذاكرة من منثورات الشعر والأساطير. فتنقله من الشعور إلى المعلومات. وتلبي الحاجات الوطنية وعطش الروح. وقد مدّ غياب هذا النهج الارتجال الغنائي الإنشائي. على حين تناولت دور النشر العالمية ثروتنا الحضارية، ونشرت عنها كتباً متقنة الإخراج والطباعة.
لكن هل يوضع مشروع عمل ثقافي دون ما يرصد من المال للثقافة؟ بمعيار القيم الراهن تنفق الملايين على مسلسل يسيء إلى الشخصية السورية، على حين تفتقر وزارة الثقافة إلى المال لطباعة كتب متقنة فنية عن كنوز متحف دمشق، وكتب تموّن المواطن السوري بمعرفة آثار بلاده، وتعرض له جمالها فترغبه في زيارتها، وتستولد غيرته عليها، وتعرفه بأن تحطيم رمز مدينة كان يعني إعلان هزيمتها، فتستنهض دفاعه عنها. لم يحلم خالد الأسعد، المختص الكبير بتدمر، راعي متحفها، مرمم بعض آثارها، مستضيف زوارها، بموازنة تساوي جزءاً مما رصد لمسلسل «صبايا»!
نبهتنا الحرب إلى مكانة هذا الجانب المادي من الذاكرة التاريخية والحضارية التي لا تقدر قيمتها المعنوية والفكرية والوجدانية. أما الجانب الآخر، التراث العلمي والفني الذي كان حضارة عالمية أكثر من أربعة قرون، وعرضت صفحات منه منذ سنوات في معرض كبير عن «العلوم عند العرب» في متحف دمشق، فينتظر عملاً مستمراً لدراسته ونشره. وهو إلى جانب جماله وغناه، رد متنور على من يروج فكراً مظلماً حارب العلماء والمفكرين والفلاسفة.

أي كتاب؟

الكتاب إذاً ليس سلعة حيادية. مع أن كل سلعة غير حيادية لأنها دعاية لصانعها، مؤثرة في الذوق. الكتاب حمّال فكر ودعوة، بوابة إلى المعرفة، يمد حياتنا بأزمنة وأجيال، ويوفر علينا تجارب مؤلمة. وهو أيضاً بوابة إلى جهنم، ككتاب التوحيد الوهابي. وكم من كتاب وسع أفق قارئه، وأوحى بمشروع عمل، ودفع إلى تغيير أوضاع اجتماعية! لذلك يفترض أن يكون معرض الكتاب بعد الحرب متميزاً برده على الفكر التكفيري، وأن يحرّم الكتب الوهابية الحقودة التي عرضناها سابقاً في معارض الكتاب، فاحترام الفكر يفرض احترام العقل.
كيف نستعيد عادة القراءة وتأسيس مكتبة البيت، بعد كارثة الحرب، والفراغ الفكري الذي شيده سلّم القيم من جانب، ومن جانب آخر اعتماد أشخاص غير مؤهلين لإدارة الثقافة في ظروف معقدة، وعجز القارئ عن شراء كتاب بألفي ليرة من راتب شهري لا يتجاوز عشرين أو ثلاثين ألف ليرة؟ لا تزاح هذه العوائق بالرغبة الصادقة فقط، بل بنهج يتصل بموقع المنتجين في المجتمع، بمشروع التنمية الذي يحتاج إلى المعرفة وينتشلنا من وهم يصور أن الثقافة هي الدراما التلفزيونية التي لا تستلهم الأعمال الأدبية الكبرى، بإستراتيجية ثقافية تربوية فيها مرحلة إنقاذ مباشر، ومرحلة تنضج ثمارها بعد سنوات. تعتمد نشر الكتاب الذي يغني العقل، وتحصن الهوية الوطنية بمعرفة تراثها التاريخي والأدبي والعلمي، وتنشر معرفة الحضارة السورية، وتدعم الورق، وتنظم ترويج الكتاب.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن