قضايا وآراء

عن العبث الإعلامي وأسئلة السوريين المشروعة: ماذا بعد حلب؟

| فرنسا – فراس عزيز ديب 

هناكَ حكمةٌ تقول إن الإنسان عدو ما يجهل، قد يكون هذا الجهل اختيارياً، كقلَّةِ الاطلاع والتقليل من التثقيف الذاتي، وقد يكون إلزامياً نتيجة عدم توافر المعلومات التي تتيح لنا الإلمام بالحالة.
ربما أن الحالة الثانية تنطبق على جزءٍ كبيرٍ منَ الشعبِ السوري بعدَ ما عاشه ويعيشه في الأيام الماضية؛ فيضٌ من المشاعرِ، والقليل من الموضوعية في طريقةِ التعاطي مع ما يجري من مجازرَ مفتوحةٍ بحقِّ الأبرياء في حلب، جعلته يطرح أسئلةً لا يمكن نكران أهمية أغلبِها ولا سطحية بعضها الآخر:
هل حقاً أن الروس يحاولون فرضَ الهدنة بمعزلٍ عن رأي القيادة السورية؟ هل سنترك حلب تضيع بين أيدي العثمانيين الجدُد؟ لماذا لا تمارس إيران ضغطاً عبر علاقاتها المتصاعدة مع تركيا بما فيها العلاقات التجارية للوصول نحو حقنٍ لدماء الأبرياء في حلب؟
في الإطار العام وبمعزلٍ عن الوضع الخدمي وطريقة تعاطي أصحاب الشأن مع معاناة المواطنين هناك، لأن هذا الأمر لا يمكن لنا أن نعفي أحداً منه أو نسوّغه، لكن ما يهمنا هنا هما الشقان الأمني والعسكري.
منطقياً ليس علينا الاستغراب من أسئلةِ المواطنين المُلحّة، فهذه الأسئلة كلها «نتيجةٌ» وليست «سبباً»، أساسها القصور في المخاطبة أو الشرح لمن هم معنيون بما يجري، لأن المواطن حقه علينا أن يسمع أجوبةً منطقية، لا أن نُعيدَ له خطاباً عمره خمس سنوات، وحمام الدم الذي فُتح في حلب لا يمكننا اختصاره بعبارةٍ ببغائية من قبيلِ أن الجماعات الإرهابية أفلَست، أو أن نهاية أردوغان اقتربت، بل إن البعض الآخر ما زال يريد إقناعنا بأن الاقتصاد الأميركي على شفير الهاوية (ربما لا يزالون يقرؤون بيانات 2008).
كل هذا التكرار بات يستفز المواطن، فالعصابات الإرهابية لن تُفلس، لأن المجرم دائماً ما تكون خياراته أوسع من العاقل، فلا محدِّدات لتصرفاته. أما من ينتظر سقوط أردوغان فسينتظر كثيراً لأنه لم يفهم أن هذا المجرم قادرٌ على أن يُدخل تركيا في حربٍ أهلية ولن يتراجع. أما انتظار تبدلٍ ما في سياسة «آل سعود» فهو كانتظار تبدل آلية طرح الأسئلة والأجوبة من الإعلاميين وضيوفهم على الإعلام السوري. إذاً لماذا هذا التصعيد في حلب؟
بداية، يمكننا أن نفهم ما يجري في حلب من خلال ردة الفعل الأميركية على رفضٍ (أولي) للمشروع الروسي القاضي باعتبار «جيش الإسلام» و«أحرار الشام» فصيلين إرهابيين، هذه الورقة استخدمها الأميركيون كثيراً من أجل المساومة على موضوعِ الهدنة، وإيقاف تسونامي الجيش العربي السوري والحلفاء في حلب. لكن لم تعد المشكلة بآلية التعاطي الدولي مع هذين التنظيمين، ما هو أسوأ هو إصرارهما على الوجود في المناطق التي يوجد فيها تنظيم «النصرة»، التي هي أساساً تأخذ المدنيين كدروعٍ بشرية، كيف لا وهناك تنظيماتٌ كثيرة أصدرت بياناً أعلنت فيه عقب بدء الهدنة منذ شهرين أن النصرة -وهو فرع تنظيم القاعدة في بلاد الشام- إخوتهم وما يصيب «النصرة» يصيبهم، دون أن ننسى أن («الشيخ معاذ الخطيب» كما يسميه مَن يدَّعون أنهم صحفيون موضوعيون) كان يدافع عن «النصرة» كمكوِّنٍ لما سماها «الثورة».
هذا الأمر هو في جوهر التنسيق (التركي السعودي) لتصبح هاتان الحركتان أشبهَ بغطاءٍ لـ«جبهة النصرة». هذا ما جرى بالفعل، حتى القنوات الإعلامية استنسخت في التباكي على المدنيين سيناريوهات «حمص 2012» في الكذب الإعلامي، وهي ذاتها قد هلَّلت لقيام الإرهابيين بتفجير «مشفى الكندي» بحلب وقتل حاميته، بل إنها وجدت في عمليات الجيش العربي السوري لضرب المقرات العسكرية لـ«جبهة النصرة» فرصةً لتسويغ قيام تلك العصابات بإمطار المدنيين في حلب بالقذائف ما أدى إلى جرح واستشهاد المئات. كان من الواضح أن هذا التضليل لم يكن بذاك التأثير في المستوى الدولي، بما فيها اللجوء للمبادرات الإنسانية وما شابه، حتى الوصول لدخول «أفيخاي أدرعي» وبعض «الأدرعيين» اللبنانيين على الخط الإنساني، الأوضح كان هو إصرار الحلف «التركي السعودي» على استخدام دماء الأبرياء من أجل بناء سورية مستقبلية على مقاسهم «الوهابي» أو «العثماني» حتى آخر قطرة دمٍ سوريّة، فماذا ينتظرنا؟
قبل أمس التقى وزير الخارجية الأميركي «جون كيري» حلفاءه في جنيف، في المعلومات أن مهمة كيري لم تكن تستهدف فقط الضغط على الحلفاء لإلزام الفصائل التي تدعمها بالابتعاد عن «النصرة»، بل جاء ليستكمل ما كان أوباما قد بدأه وأشرنا إليه في مقال الأحد قبل الماضي بأن التمرد على الأميركي بات كبيراً، وأن السيف الذي يلوح به أوباما بقضية تفجيرات أيلول ستتابع إذا واصل «آل سعود» مغامرتهم، فهل سيفي «آل سعود» بالتزاماتهم؟
كذلك الأمر، انطلقت من خلالِ الصحف الصفراء والكتّاب «المتلونين» حملةٌ للترويج لـ«محمد بن سلمان» كملكٍ إصلاحي قادم، عبر حركةٍ إصلاحية سيقوم بها الأمير ما إن دنا له العرش. أما «عادل الجبير» فعادَ لنغمة أن على الأسد أن يرحل حرباً أو سلماً، طبعاً هذا التهديد إن كان حكماً لا يُرضي الروس، فهو كذلك الأمر لا يُرضي الأميركيين لأنهم أساساً نسوا مثل هذه التصريحات. أبعدُ من ذلك، عاد الجبير للحديثِ عن فكرةِ تسلّيح الإرهابيين بمضاد طيران، وهذا قد يعني ضمناً أن مضاد الطيران بات بأيدي الإرهابيين وهو ما يخالف جميع القرارات الدولية المتعلقة بالشأن السوري، هنا نصل إلى ما هو أهم من هذه التصريحاتٍ قد تُعطينا لمحة عن المشهد.
دائماً ما نكرر عبارة لا تظنوا أن الولايات المتحدة قادرةٌ على أن تُمسك بكلِّ الخيوط، هي ليست قدَراً، وحلفاؤها قد يشعرون بضعفها كما من يخالفونها بالسياسة، لكن هناك من يصر أن الأتباع لا يتصرفون إلا كما تريد الولايات المتحدة، ربما هذا في السابق، الآن فإن الحليفين الأهم (تركيا وآل سعود) ترَيان أن الانتصار في سورية أمرٌ مصيري ولو كان ثمنه تمرداً على إدارة راحلةٍ، لأن احتمال إنقاذ ما يمكن إنقاذه مع التمرد أكبر من الاستسلام لما تريده إدارة أوباما، فأي الآراء قد ترجح؟
هناك خياران، الأول أن يعلن «جيش الإسلام» و«أحرار الشام» ولو شكلياً الابتعاد عن «النصرة»، لكن هذا الأمر ربما صعبٌ على المستوى التكتيكي والعملياتي على الأرض، لأنه يعني الالتزام بالهدنة وعدم الرد، ثم النجاة من مقصلة مجلس الأمن.
الخيار الثاني أن يذوب التنظيمان رسمياً في «النصرة»، وهو ما لا يسمح به «آل سعود» لأنه سيعني خسارة أوراقهما لمصلحة كل من قطر وتركيا، والأهم أن لا إمكانية للعودة للوراء بخصوص اعتبار النصرة «منظمة غير إرهابية».
أما الخيار الأشمل، فهو أن الحركتين ستتمسكان بموقفهما بطلبٍ من «آل سعود» الذين لا يخسرون أي شيء في كل الاحتمالات، لأن الأبرياء السوريين وحدهم من يدفعون الثمن، ومن ثم كل الهُدَن لن تجدي نفعاً لأن الهدف منها سيكون حماية الإرهاب بذريعة «معارضةٍ معتدلةٍ»، فهل سيكون مصير جنيف القادم الفشل قبل أن يبدأ؟
بعد لقاء الحلفاء قال كيري كلاماً مهماً، تحديداً عند كلامه إن الوضع في سورية «خرج عن السيطرة»، ربما إن عودة «وفد الرياض» إلى جنيف تبدو مفصلية، فإما العودة أو أن الروسي وبرضى أميركي سينجز أمراً مهماً، وهو قبول ضم المنظمات المدعومة من «آل سعود» وتركيا للائحة المنظمات الإرهابية، عندها من سيتحدث عن هدنة؟ وبمعنى آخر: أين التنظيمات المعارضة التي يجب عدم محاربتها، لكيلا يستمر الوضع خارج السيطرة؛ كما قال كيري؟
الوضع في حلب و«حولَ حلب» في غاية التعقيد، ليس هناك معركة إقليمية وليس هناك حرب عالمية، هناك تصفية حسابات لن تكتمل إلا بدفع الأثمان -للأسف- ببساطةٍ لأن الإنسان دائماً عدو ما يجهل، ولأن «آل سعود» يجهلون حقيقة أنفسهم؛ تراهم أعداء حتى لها، أما نحن فلا نجهل «دير الزور» ولا نجهل «الساحل»، ولا نجهل أن كل بقعةٍ من التراب السوري هي نقطةٌ لبناء سورية المتجددة ولو بدماء الأحرار.
تريدون إسقاط حلب… سُحقاً… فمدينتنا شابَ التاريخ على حجارتها… وهي لم تَشبْ.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن