قضايا وآراء

ضعف مثلث القوة الأميركية واللجوء للقوة الناعمة

د. قحطان السيوفي

 

يمكن عرض وتلخيص قوة الدولة الحديثة بعناصر ثلاثة: القوة الاقتصادية، القوة الصلبة (العسكرية)، والقوة الناعمة. في زمن التغيرات الكبرى، هناك رغبة بل إغراء بالعودة إلى التاريخ للمساعدة في قراءة الحاضر، واستقراء المستقبل من أجل الفهم والاطمئنان… (جوزيف ناي) محلل أكاديمي من جامعة هارفارد، ومسؤول سابق في البنتاغون، مؤلف كتاب (هل انتهى القرن الأميركي؟) هو الذي صاغ مصطلح (القوة الناعمة) والمقصود به، الطريقة التي يمكن أن تلجأ إليها الدول لتحقق أهدافها عن طريق الإقناع والقدرة على الجذب والتفاهم. بالعودة إلى التاريخ يلاحظ أن الهزات التي أصابت أضلاع مثلث القوة ألأميركية في المجالات الثلاثة: (الاقتصادية، الصلبة، الناعمة) قد دفعت واشنطن للتعويض عن الضعف في المجالين الأولين، إلى اللجوء للمجال الثالث (القوة الناعمة) عبر التفاوض والدبلوماسية؛ فالولايات المتحدة الأميركية بعد هزيمتها العسكرية في فيتنام.. وشعورها بالإحباط، لجأت للتفاوض مع الصين؛ العدو الرئيسي للولايات المتحدة في شرق آسيا، عبر (القوة الناعمة…) وذهب الرئيس الأميركي نيكسون إلى الصين عام 1972، ليطبع العلاقات الأميركية الصينية، ولو بالحد الأدنى… وأبرم مع الصين اتفاقاً اقتصادياً.
حتى الآن، بإمكان الصين أن تتحدى الولايات المتحدة في واحد من هذه المجالات، وهو الاقتصاد. حسب صندوق النقد الدولي؛ فاقتصاد الصين أكبر من اقتصاد الولايات المتحدة، مقاساً بالقوة الشرائية. والكثير من المحللين والمراقبين والخبراء ومنهم (جوزيف ناي) يُقرون أن الاقتصاد الصيني ربما يتجاوز الاقتصاد الأميركي بالأرقام المطلقة بعد عقد ونيف. بالمقابل يرى (ج. ناي) أن أميركا ربما تحافظ على جدارتها في مجال القوة العسكرية، والقوة الناعمة لفترة أطول.
وفي رأيه أن الولايات المتحدة تستفيد من الظروف الجيوسياسية المؤقتة أكثر من الصين. بالمقابل نرى أنه من الممكن أن يصبح جانب القوة (الاقتصادية) في النهاية أكبر من الجانبين الآخرين. الثروة الاقتصادية هي التي تمول، عملياً، القوة العسكرية، كما أن الثروة المتنامية قد تولد شكلاً من (القوة الناعمة)؛ وتجربة الصين في تأسيس البنك الآسيوي للاستثمار في البنى التحتية مثال واضح على ذلك؛ حيث يهرول حلفاء الولايات المتحدة الأميركية في سباق، رغم المعارضة الشديدة لهذه الأخيرة، إلى المطالبة بالانضمام إلى البنك الصيني المحدث. وكانت بريطانيا أول الدول الساعية لأن تكون عضواً مؤسساً في البنك المذكور… وتلتها في هذا السباق دول عديدة أخرى، من حلفاء واشنطن، كان آخرها فرنسا وإيطاليا، وبلغ عدد الدول الأعضاء المؤسسين في البنك الصيني للاستثمار في البنية التحتية (34) عضواً حتى الآن آخرها دولة الإمارات العربية.. وهذه الدول الثلاث والثلاثون، ومعظمهم من حلفاء الولايات المتحدة، يرون أن مصالحهم الاقتصادية أكثر أهمية مع الصين منها مع الولايات المتحدة، ومن ثم تصبح قدرة الصين أو (قوتها الناعمة) على الجذب أكبر، إن الجدل حول البنك الآسيوي للاستثمار له تأثير في مستقبل الزعامة العالمية. صحيح أن الولايات المتحدة تملك القوة العسكرية الأقوى في العالم كلها… إلا أن الصين قادرة على تحدي أميركا في الهيمنة العسكرية على منطقة آسيا والمحيط الهادي… وهذه المنطقة تمثل أهمية اقتصادية عالمية.. وخسارة الهيمنة الأميركية هنا ستكون له آثار عالية… كان يقال إن السياسة الأميركية توقفت عند حافة المياه… لكن المشهد يشير إلى أن الضمور تسرب إلى كل زاوية من زوايا المشاركة العالمية للولايات المتحدة؛ من العلاقات الإسرائيلية إلى محادثات التجارة عبر المحيط الهادي… الحمهوريون، الذين يسيطرون على الكونغرس اليوم، يعارضون جدول أعمال أوباما… والديمقراطيون في حال من الفوضى، وبدلاً من كسر الجمود فإنه ينتشر كأنه بقعة حبر في السياسة الخارجية الأميركية. أكبر الضحايا هو قدرة الولايات المتحدة على التعامل مع الفوضى في الشرق الأوسط التي ساهمت هي أصلاً في إيجادها، أطلقت عليها اسم الفوضى الخلاقة حسب تعبير كونداليزا رايس) وزيرة خارجية أميركا سابقاً… حتى رئيس وزراء إسرائيل (نتنياهو) استغل ضعف الإدارة الأميركية ليسخر من أوباما في الخطاب الذي ألقاه في الكونغرس الأميركي… الجمهوريون في الكونغرس يعارضون استخدام أوباما للقوة الناعمة في معالجة موضوع النووي الإيراني، لدرجة أن (47) عضواً من مجلس الشيوخ وجهوا رسالة إلى المرشد الإيراني (آية اللـه خامينئي) بأنهم سيعملون على إلغاء أي اتفاق نووي يعقده أوباما. لقد سبق للأزمة الاقتصادية أن ساهمت في تقليص ميزانية الدفاع الأميركية أي أثرت سلباً في القوة (الصلبة) الأميركية، وأكدت قناعة إدارة أوباما بعدم جدوى التدخلات العسكرية المباشرة.. وجاءت ظاهرة الخلافات في الكونغرس لتحد أكثر من قدرة واشنطن على استخدام القوة العسكرية الصلبة، وأكثر من ذلك فإن الجمهوريين في الكونغرس حاولوا إحداث فوضى في السياسة الخارجية الأميركية.
الواضح أن الإدارة الأميركية اتخذت قرارها ذا الطابع الإستراتيجي بعدم التدخل العسكري المباشر على الأرض، كما اقتنعت بعدم جدوى العقوبات الاقتصادية التي فرضت على إيران خلال ثلاثة عقود ونيف… وأمام الضعف في ضلعي مثلث القوة الأميركية… حسمت إدارة أوباما أمرها بالهروب باتجاه استخدام القوة الناعمة مع إيران والاستئناس بتقرير (بيكر – هاملتون) الشهير؛ وانسجاماً مع اتجاه جديد بدأ يتشكل في واشنطن؛ بضرورة التفاوض مع إيران حالياً، وربما مع سورية لاحقاً… ومن ثم دفُعت إدارة أوباما لتأكيد أسلوب اللجوء لاستخدام القوة الناعمة للتفاوض ومجموعة (5 + 1) مع إيران حول ملفها النووي وتم التوصل إلى الاتفاق المبدئي حول الموضوع بتاريخ 2/4/2015، الذي وصف بالاتفاق التاريخي من الأطراف المتفاوضة.
بالمقابل عمدت إيران من خلال قبولها باستخدام القوة الناعمة والتفاوض مع القوى الست الكبرى إلى الربط بين ملفي الموضوع النووي، والعلاقات مع الغرب؛ باعتبارهما (الجزرة) التي يمني الغرب نفسه بالحصول عليها… من المبكر الحكم على نتائج اتفاق الدول الكبرى الست مع إيران، لكن يمكن القول إن إيران بدورها استخدمت، وببراعة سياسية عالية المستوى، القوة الناعمة في التفاوض حول مواضيع (غير سياسية)، وحافظت، بثقة وقوة، على مواقفها السياسية الثابتة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن