ثقافة وفن

تدمر خلعت رداءها الأسود وزفت عروساً للصحراء … «بوابة الشمس».. موسيقا صدحت على المسرح الأثري رغماً عن تطرفهم وإرهابهم

| وائل العدس – «تصوير: طارق السعدوني»

برعاية الرئيس بشار ‏الأسد‬ وتخليداً للذكرى المئوية لعيد الشهداء، أقيمت على مسرح ‏تدمر‬ الأثري الفعالية الثقافية «‏بوابة الشمس‬» شاركت فيها الفرقة السيمفونية الوطنية السورية والفرقة الوطنية للموسيقا العربية وأوركسترا ماري وجوقة الفرح.
هذه الفعالية كانت شاهدة على عودة الحياة إلى أهم مدينة أثرية في العالم بعدما حررها أبطال الجيش العربي السوري من رجس الإرهاب، فحولوا ظلامها إلى نور، وأزالوا عنها الرداء الأسود وأعادوها «عروس الصحراء» الزاهية والبهية.
الآثار التدمرية كانت وما زالت مقاومة للزمن وشاهدة على حضارة سورية خالدة، لما تحتوي عليه من جمال الطبيعة وعراقة التاريخ، كما أنها تعكس مكتنزات أثرية من مسارح وأعمدة ولوحات فسيفساء وتماثيل ومخطوطات ونقوش.
هي البداية، بوابة شمسنا الساطعة لم يتمكن ظلامهم من إطفائها، عظيمة بنصرها، نصرها الذي لم يكن لولا الجيش العربي السوري الأبي، وأهل أحبوا أرضهم وانتموا لها، وشعب صمم وأراد وصمد وضحى، وموسيقا صدحت رغماً عن تطرفهم وإرهابهم.
في هذه المدينة انتصر الحق على الباطل، وانتصرت الإنسانية على الهمجية، وانتصرت دماء شهدائنا على المجرمين قاطعي الرؤوس.
حضر الفعالية أسر الشهداء وعدد من الوزراء والسفراء والدبلوماسيين وفعاليات رسمية وشعبية وثقافية وفنية وإعلامية وفرق شبابية تطوعية تمثل المجتمع الأهلي غص بها مدرج تدمر الأثري الذي يتسع لأكثر من 1500 شخص.
«الوطن» كان حاضرة على الأرض التدمرية وكان لها هذا التقرير:

بوابة الشمس

امتد العرض لنحو الساعة والنصف من الزمن، لم يتوقف فيها الجمهور عن التصفيق والهتاف لسورية ولجيشها وقائدها، مع رفع أكثر من ألف علم سوري رفرفت عالياً في سماء تدمر.
بدايةً قدمت فرقة مراسم الشرطة والجيش والقوات المسلحة بقيادة العقيد عز الدين قاسم ثلاث معزوفات بدأتها بـ«تحية الشهيد»، و«النشيد العربي السوري» بتوزيع جديد لصلحي الوادي، و«المارش الجنائزي».
وقدمت أوركسترا ماري بقيادة رعد خلف أربع معزوفات هي «تدمر»، و«فينيقيا»، و«ماري»، و«أوغاريت».
أما جوقة الفرح بقيادة حبيب سليمان ورجاء الأمير الشلبي فقدمت أغنية «راجع بأصوات البلابل»، ومقطوعات «اعتز العز»، «سورية»، و«تنتصر تدمر»، ووصلة غنائية أدت فيها «بكتب اسمك يا بلادي»، و«عامر فرحكم»، «بالفرح بالعز».
بدورها قدمت الفرقة الوطنية للموسيقا العربية بقيادة عدنان فتح اللـه مقطوعة بعنوان «تدمر بوابة الشمس»، وأغنية «خطة قدمكن»، وأغنية «زفوا العسكر للمجد»، و«راياتك بالعالي يا سورية».
بينما قدمت الفرقة السيمفونية الوطنية السورية وكورال الحجرة التابع للمعهد العالي للموسيقا بقيادة ميساك باغبودريان مقطوعة «مارش النصر من أوبرا عايدة»، لتختتم بعدها الفرقة وجميع أعضاء الكورالات المشاركة بأغنيتي «مهما يتجرح بلدنا»، و«سورية يا حبيبتي»، و«النشيد العربي السوري».

وفاء وانتصار
قال محافظ حمص طلال البرازي لـ«الوطن»: إن الشعب السوري سيبقى وفياً لدماء الشهداء، هذا الوفاء نعبر عنه دوماً بالانتصار، وهذه الفعالية اليوم هي تعبير عن هذا الوفاء وهي تقام برعاية خاصة من رئاسة الجمهورية تأكيداً على ما جرت عليه العادة في كل المناسبات لنبقى أوفياء لدماء شهدائنا ولهذا الوطن الغالي ولنعيد بناء سورية بناءً سليماً.
وأضاف: الشعب السوري جاء اليوم من كل مكان، من حلب ودمشق واللاذقية وكل المحافظات ليؤكد أن تدمر ما هي إلا حلقة من حلقات الانتصار المستمرة، ولنحتفل قريباً في الرقة ودير الزور ونقيم فعاليات ثقافية في قلعة حلب، فهذه هي سورية التاريخ، سورية الحضارة والثقافة، سورية الإنسان.

لحظات استثنائية
بدوره، أكد المدير العام للآثار والمتاحف مأمؤن عبد الكريم أن ما يشهده مسرح تدمر الأثري لحظات استثنائية لكل السوريين ولا سيما أنه يتزامن مع عيد الشهداء الذين ضحوا بدمائهم في سبيل الوطن.
وبين أن إقامة الاحتفالية على مسرح تدمر الأثري الذي شهد فظائع لإرهابيي «داعش» هو إثبات لثقافة السلام والمحبة أمام ثقافة الجهل والقتل والتكفير، لافتاً إلى أن مدينة تدمر التي كانت رهينة للإرهابيين قبل أن تستعاد بفضل تضحيات أبطال الجيش العربي السوري.
صدمة وسعادة

أما الممثلة شكران مرتجى فقالت: إننا جئنا إلى تدمر لنكون بين الناس ومعهم، يفرحون بنا ونفرح بهم، فتدمر تعني لنا الكثير، ولحظة تحريرها كانت من أسعد اللحظات، وجميل جداً أن نعود مجدداً إلى هذه الأرض لنتعطر هواءها ونتبارك بترابها الطاهر، ومن خلال هذه المدينة العظيمة يجب أن نتخذ دروساً وعبراً بأن الإنسان يجب أن يتمسك بأرضه.
وتابعت: عانينا كثيراً حتى عادت إلينا تدمر، وإن شاء اللـه في المرة القادمة فسنزور حلب وكل المحافظات السورية، وهذه حقنا وهذه بلدنا، ولن نقبل إلا أن تعود كما كانت قبل خمس سنوات، فلا أستطيع تخيلها إلا أنها كاملة مكتملة.
وعن شعورها فور دخولها تدمر بعد تحريرها أجابت: تملكني شعور فظيع، شعرت بصدمة وقهر، وحزنت لأننا لا نقدّر قيمة الأمور إلا بعد فقدها، لكن في الوقت نفسه سعدت لأن الحياة عادت لتدمر، وشعرت بأن العواميد استقبلتنا ومسرورة بنا، وأنا شخصياً ومنذ استشهاد خالد الأسعد أصبحت تدمر تعني لي بشكل مضاعف، واليوم التقيت عائلته وأخبروني أنه رفض ترك مدينته حتى استشهد.

حضارة الجمال
وقال الممثل مصطفى الخاني: يهمني كمواطن سوري أولاً وكفنان ثانياً أن أكون هنا على أرض هذا الجزء الغالي على قلوبنا، فمدينة تدمر لها دلالة ثقافية وحضارية وتاريخية حاولوا من خلالها تقديم ثقافتهم، ثقافة القتل والتدمير وتم سفك دماء غالية على المسرح، ولكن عدنا لها لنقدم ثقافتنا الحقيقية، الثقافة السورية والأدب والفن لنقول إنها سورية الحقيقية.
وأشار إلى أنه على مر التاريخ حاولوا تدميرها، لكن بقيت سورية وبقينا مصرين على أن سورية هي جمال الحضارة وحضارة الجمال بأيدينا وتصميمنا جميعاً.
وكشف أنه بلحظة راودنا اليأس بأننا لن نعود لهذا المكان عندما رأينا الإجرام، ولكن بهمة الشعب السوري والجيش السوري والقيادة السورية وبإصرارنا عدنا، وإن شاء اللـه سنعود لكل جزء من الأراضي السورية.
وختم الخاني حديثه لـ«الوطن» بأنه من الصعوبة وصف شعوره، شعور من السعادة والفخر والاعتزاز بأبناء الجيش الذين بهمتم عدنا لحضارتنا الحقيقية، بآثار تشهد على آلاف السنين من الحضارة، ومهما حاول الأعداء فستبقى شاء من شاء وأبى من أبى.

حضارة ونور
وشدد الممثل فادي صبيح على أننا «سوريون قبل أن نكون فنانين، جئنا لنقول لكل العالم إن تدمر التي تعرضت للإرهاب ومسرحها الذي تلوث بالدماء هو المكان نفسه الذي سيشع حضارة ونوراً وموسيقا وفناً».
وقال: عند مدخل تدمر صدمنا من هول الدمار، ولكن المهمة التي جئنا لأجلها تجعلنا كسوريين نقف باعتزاز وصمود.

الحب والحياة
من ناحيته قال الممثل علاء قاسم: إنه جاء إلى تدمر لأنه سوري وله حصة في كل جزء منها ولأنه ينتمي إلى هذه الأرض، وليحتفل بعيد الشهداء الذي لولاهم لما كنا هنا.
وأضاف: عاد الحب والحياة والأمل والفرح، فالإرهاب لم يستطع سلبنا أرضنا، فنحن سوريون منذ آلاف السنين ومستمرين إلى ما بعد آلاف السنين أيضاً.
وأوضح: قبل مجيئي كان عندي قلق على الآثار وتحديداً على الشارع الطويل وقوس النصر، ومزعج جداً ما أصاب معبد «بل»، ولكن ما تبقى كان شاهداً على وجودنا واستمراريتنا، والحمد لله وجدته كما كان قبل خمس سنوات.

الصمود والبطولة
المخرج المهند كثلوم قال لـ«الوطن»: كوني ابن شهيد، يحق لي الاحتفال بعيد الشهداء بأي مكان في سورية، وجرت العادة أن نحتفل عند ضريح الجندي المجهول في قاسيون، أو في مدارس أبناء الشهداء، لكن اليوم كانت فرحتنا كبيرة بعيد جديد لنوجه تحية لشهداء بلدنا ومنهم والدي، من تدمر الصمود والبطولة التي تشكل هويتنا الثقافية، فأي بلد لا يمتلك مثل هذه الآثار فهو فاقد للأرض والانتماء، وهذه أرضنا ونحن متمسكون بها؟.
ووصف كل المناطق السورية وكأنها منازلنا، مضيفاً: تصور فرحتنا عندما نغيب عن منزلنا ونعود، لكن اللحظة الأولى لا تخلو من الدمعة لأننا خسرنا جزءاً من الآثار، وخاصة أنه دفع ثمنها الكثير من الدماء، وختم: من تدمر تحية لكل مدينة صامدة في وجه الإرهاب.

فخر تدمري
ولم يخف أهالي تدمر فرحتهم الغامرة، معبرين عن شكرهم وامتنانهم للجيش العربي السوري الذي فتح لهم باب الأمان وأعاد الحياة إلى مدينتهم.
التدمري السبعيني يوسف محمد أحمد آغا قال لـ«الوطن»: نفتخر أننا نمتلك جيشاً جباراً أعاد لنا كرامتنا، وقائداً عظيماً وقف صامداً بوجه أعداء الوطن الكثر، فإرهابيو داعش كانوا يظنون أنفسهم سادة الأمم، قبل أن يندحروا وينتصر الحق عليهم.

اليوم السابق
خلال يوم الخميس، قدم قائد الأوركسترا الروسي الشهير فاليري غرغييف عرضاً موسيقياً في المسرح نفسه، ويعتبر غيرغييف من أشهر الموسيقيين في روسيا والعالم حيث يرأس حالياً مسرح مارينسكي في سان بطرسبورغ، واصطحب معه الأوركسترا الروسي إلى سورية لإحياء الحفل.
وتحدث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى المشاركين في الحفل عبر جسر تلفزيوني وشكر القائمين على هذه المبادرة الثقافية الإنسانية الرائعة.

تدمر ومسرحها

تعد مدينة تدمر حالة نموذجية، مدينة سورية خلال العصور القديمة وسط البادية السورية، أدت دوراً مهماً في حقبة تعد الأغنى في تاريخها، ذاع صيت عظمتها في الشرق والغرب حتى غدت من أغنى مدن العالم القديم، وشكلت في الوقت الحاضر أحد أهم المصادر التي تستنبط منها عظمة سورية التاريخية.
تقع تدمر على بعد 245كم من دمشق العاصمة، و160كم عن مدينة حمص، وشكلت نقطة وصل لأهم المدن السورية حيث تبعد عن دير الزور 213كم.
سماها الآراميون «تدمرتو» ومعناها الأعجوبة، أما الإغريق والرومان فأطلقوا عليها اسم «بالميرا» نسبة إلى النخيل الذي اكتنف واحاتها وسرعان ما تميزت نشأتها البسيطة حول نبع «أفقا» ذي المياه الكبريتية بتنشيط الحياة الاقتصادية وقد وهبها موقعها الجغرافي والإستراتيجي مكانة الصدارة في القرنين الثاني والثالث الميلاديين، حيث كانت ممراً وملتقى للطرق التي تصل بين الشرق والغرب ومركزاً لتمويل القوافل التي تتوافد إليها من مصر وقلب الجزيرة العربية، ومن ساحل الخليج العربي ومن مرافئ دجلة والفرات وشط العرب خاصة.
ازدهرت تدمر خلال القرون الميلادية الأولى، ولاسيما في النصف الثاني من القرن الثالث الميلادي وعقدت حلفاً مع الرومان وقد شملت تدمر الصحراء الشامية، كان أذينة أول حاكم لها، منحه القيصر الروماني غالينوس لقب ملك سنة 265م، وقد استلم الحكم من بعده زوجته الزباء «زنوبيا» سنة 268م، وأعلنت نفسها ملكة على الجزء الأكبر من المشرق، وأعلنت ابنها «وهب» قيصراً.
أما المسرح فيقع على يسار الشارع المستقيم، بني المدرج في النصف الأول من القرن الثاني الميلادي، ثم شيدت المنصة في أواخر القرن الثاني وأوائل القرن الثالث، وكان مدفوناً تحت الرمل حتى عام 1950 ثم نقب ورمم عام 1952م.
بني بالحجارة الكلسية على شكل نصف دائرة، له مدرج بقي منه 13 صفاً، ارتفاع الواحد 13سم وعرضه 60سم، في المسرح فسحة الأوركسترا وهي مبلطة بالحجارة، ولها ثلاث بوابات: الشرقية والغربية على الجانبين عبر ممرين معقودين، أما البوابة الجنوبية فمستطيلة وهي لإدخال الحيوانات المفترسة للمصارعة.
أبعاد المنصة 10.5 × 48م، خلفها ممران متوازيان بينهما حائط، في المنصة خمسة أبواب تصل بينها وبين الممر الخلفي، أكبرها أوسطها، وفيها ثلاثة إيوانات لها محاريب توضع فيها تماثيل آلهة الفنون.
في حائط البوابة ثقوب لتعليق البرامج والعروض، إذ كانت تعرض فيه الكوميديا والتراجيديا والموسيقا، كما كان المجرمون المحكومون بالموت يتصارعون مع الحيوانات المفترسة بعد أن يزودوا بإبر صغيرة للدفاع عن أنفسهم، وقد وضع سياج معدني بين المدرج والأوركسترا لحماية المتفرجين، وبقايا ثقوب هذا السياج ما زالت في المكان.
للمسرح مدخل نصف بيضوي بدلاً من نصف دائري كما جرت العادة، عند البوابة الشمالية الغربية للمسرح هناك محال لبيع الطعام والشراب، لها لافتات حجرية عليها كتابات يونانية تعلن عن بضاعتها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن