قضايا وآراء

حلب.. تناقض التصورات

| مازن بلال 

نظام التهدئة الذي يتم تمديده في مدينة حلب يهدف إلى كسر احتمالات المواجهات المباشرة، ومحاولة إبعاد التصعيد عن الحدود الدولية السورية – التركية، فهو استيعاب لعدم القدرة على إدارة الصراع ضمن ازدياد المخاطر بالانزلاق إلى صراع دولي، فالجغرافية الفاصلة بين تركيا؛ كمقدمة للناتو، والقوات الروسية تضيق جغرافياً وسياسياً، وتداخل المشاريع الإقليمية يحاصر بشكل فعلي إمكانية تحقيق «الأمن» في شرقي المتوسط عموماً، ويبدو أن الانفجار في الريف الحلبي الجنوبي لا يخرج عن تطور المشاريع الإقليمية على حساب التصورات الدولية للأزمة السورية.
بالنسبة لتركيا لم يعد الأمر يتعلق بالإرهاب أو بأمن ما تطلق عليه «حديقتها الخلفية»، فما يمكن أن تشهده تركيا مستقبلاً أصبح مرتبطاً بإحداث تحول حقيقي في العلاقات بين أنقرة وموسكو من جهة، إضافة لرسم قوس جديد في مسألة نفوذها على حدودها الجنوبية، فتركيا لا تحتاج إلى «منطقة آمنة» أو «عازلة»، بل لشريط يتم من خلاله عزل تحركات المسلحين عن أراضيها، وبالتالي خلق مجال ينتقلون إليه بشكل يسهل ضبطه وإخراجه من الدائرة التركية، فالتصور التركي اليوم يقوم على نقطتين:
– خلق مركز جغرافي بين إدلب وحلب يضمن تمركز حركة المجموعات المسلحة؛ وتوطين كل تحركاتهم بعيداً عن أراضيها بشكل يضمن أيضاً إخراج اللاجئين السوريين من تركيا إلى تلك المناطق، ومن المفترض أن يؤدي هذا الحل إلى عزل «حركة الإرهاب» وعدم تكرار النموذج الباكستاني خلال الحرب الأفغانية على أراضيها.
بالنسبة لتركيا فإن إغلاق حدودها أمام حركة الإرهاب قبل إيجاد هذه المنطقة سيؤثر في أمنها القومي، فعلى امتداد السنوات الخمس فإن حركة الإرهاب على أراضيها خلقت جملة مصالح؛ من بينها حركة اللاجئين وتدفق الأموال وتجارة السلاح، وسواء نشأت هذه المصالح بالتعاون المباشر مع المؤسسات التركية، أو نتيجة «غض الطرف» عن هذا التحرك، فإنه أصبح واقعاً لا بد من عزله في النهاية أو ترحيله قبل القيام بضربه.
– في حال عزل الحركة العامة للإرهاب في مساحة جغرافية يمكن العودة سياسياً للمساومة على إغلاق الحدود ومحاربة الإرهاب، وهذا الاتجاه في أنقرة يمكن أن يكون فعالاً نتيجة المعرفة العميقة بجميع المجموعات، فالنفوذ التركي يستثمر كل العلاقات السياسية والاستخباراتية المبنية طوال خمس سنوات مع المجموعات المسلحة لتثبيت نفوذ قادم في الشمال السوري عموماً.
حساسية التصور التركي بشأن حلب نشأ مع التدخل الروسي الذي أنهى مسألة «الحسم العسكري» في مناطق حلب واللاذقية، وهو ما أدى لتدهور العلاقات الروسية – التركية، ووضع السيناريو التركي في مواجهة التوافقات بين موسكو وواشنطن، ولكن المقاربة الحقيقية ظهرت مؤخراً مع تجاوز تركيا للتصور الدولي حول سورية، وهذا التجاوز يعبر بشكل كامل عن مشروعها في الشمال السوري، فهي ليست ممراً للإرهاب فقط بل شبكة من العلاقات الرسمية والاجتماعية مع المجموعات المسلحة.
تركيا تشكل مفصلاً في المواجهة الدولية، واندفاعها خارج الإرادة الدولية في المسألة السورية هو نموذج لصعود المشاريع الإقليمية، فالسعودية تملك أيضاً مشروعها المستقل على ما يبدو عن تصورات الإدارة الأميركية، وهذا التناقض يعكس هشاشة النظام الدولي ويضع المنطقة والعالم أمام صورة غير مسبوقة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن