قضايا وآراء

رحل أوغلو فهل سيرحل الإرهاب؟!

| فرنسا – فراس عزيز ديب 

غالباً ما تقوم بعض أنواع الأفاعي بتبديل جلدِها، لا يتطلب الأمر منها أكثر من حفِّ جسمها بين الحجارة لتغادر هذا الرداء، وتتركه كأثرٍ على مرورها من هنا. لكن بالمطلق فإن الأفعى التي تبدِّل جلدَها لا يمكن لها أن تبدِّل تكوينها، أي إنها تبقى متأهبة للدغِ وقذفِ السموم في جسدِ الضحية.
أعلن رئيس الوزراء التركي «أحمد داؤود أوغلو» أن «أيامهُ باتت معدودة». لم يكن خبر رحيلهِ مفاجئاً، لأن الخلاف بين رأسي الحكم في تركيا طفا على السطحِ منذُ أشهرٍ، لكن المفاجئ هو برؤية البعض لهذا الرحيل؛ هناك مثلاً من عاد لأسطوانة أن هناك أجنحة متصارِعة داخل «العدالة والتنمية»، هم تماماً من كانوا يقولون ببدايةِ الحرب على سورية أن هناك أجنحة متصارعة في عائلة «آل سعود»، ولم نشاهد من هذه الصراعات الافتراضية إلا صراعاتٍ بين المتسابقين لتقديم أوراق اعتمادهم للسيد الأميركي أكثر. أما البعض الآخر فلم ير في هذا الرحيل تلميعاً لصورة أردوغان وإظهاره كحمامةِ سلامٍ فحسب، بل اعتبرهُ انقلاباً أردوغانياً على السياسة الخارجية الفاشلة التي اتبعها أوغلو، والتي بدل أن تنقل تركيا لسياسة «صفر مشاكل» معَ دولِ الجوار، نقلتها لسياسة صفر أصدقاء… باستثناءِ إيران.
في الإطار العام لا يمكن لمن رهَنَ قرارهُ مسبقاً لطموحاتٍ وتحالفاتٍ وآمالٍ نرجسيةٍ أن ينتفض أو ينقلب، تحديداً أن لعنة دماء الأبرياء ستلاحقه. هو حتى غير قادرٍ على الدخول في صراعٍ مع ذاته ليتخلى عن أحلام اليقظة المميتة، فكيف له أن يدخلَ في صراعاتٍ مع الآخرين ليَنشُدَ الكمال!
هذا الضياع بين الطموح والغرور هو الصورة المصغرة للصراع بين الواقعية والعواطف في آليةِ التعاطي مع القضايا الوطنية الكبرى، فكيف يمكننا أن نفهم هذه المقاربة؟!
في السياسة، فإن الواقعية والابتعاد عن العواطف هما أحد أهم المرتكزات التي تُبنى عليها مصالح الدول، ربما أن هذه الواقعية افتقدتها –جزئياً- السياسة الخارجية السورية في الفترة الممتدة بين انتصار تموز 2006 حتى اندلاع ربيع الدم العربي، الأمر الذي سهَّل ولوج «العثمانيين الجدد» و«الرجعية العربية» نحو الداخل السوري بمسمياتٍ شتى، كانوا يحلمون بالحصول على جزءٍ يسيرٍ منها زمن الراحل «حافظ الأسد».
في المقلبِ الآخر، فإن الابتعاد عن العواطف في السياسة لا يتعلق فقط بالنظرة لمصالحكَ من منطلق ما تقرره أنت، لكن من منطلق ما قد يصيب غيرك، وهذا ما افتقدته السياسة الخارجية التركية منذ حملها راية إعادة قادة «الإخوان المسلمين» إلى سورية من خلال تسويةٍ مع السلطات السورية يمنحهم عفواً ما.
بين هاتينِ المقاربتين، كيف يمكننا التعاطي مع هذا التحول التركي؟
أولاً: كل ما جرى لا يعدو عن كونهِ رغبة أردوغانية بالاستئثار بالقرار التركي. القصة ذاتها تكررت مع الرئيس التركي السابق «عبد اللـه غل»، ولم تأخذ يومها هذا الصدى، «غل» رفض المداورة بأن يكون هو رئيس الوزراء بعد انتهاء ولاية أردوغان الأخيرة في رئاسة الوزراء، لأنه كان يعلم أن أردوغان وإن كان الدستور لا يعطيه كرئيس جمهورية أي صلاحياتٍ تنفيذية، لكنه سيصادر رئاسة الوزراء، فانسحب بهدوءٍ ورفض أن يكونَ لعبةً بيد أردوغان، مع العلم أن العلاقة التي تربط الرجلين أوثق من العلاقة التي تربط أوغلو بأردوغان، بالتالي فإن سعي أردوغان لهذا التحول السياسي هو أمر داخلي محض.
ثانياً: كل ما سيجري لن يؤثر بأي شكلٍ من الأشكال في السياسة الخارجية لتركيا، إن كانت المعلنة التي تنتهك سيادة الدول المجاورة وتتجاهل قرارات الشرعية الدولية المتعلقة بضبطِ الحدود ومنع الإرهابيين من التسلل، أو المبطَّنة التي بات دعم الإرهاب الدولي أحد أهم مرتكزاتها، وكل ما يُحكى عن تبدلٍ ما بآلية تعاطي «العدالة والتنمية» مع الملف السوري لا يعدو كونه تسويقاً لفرضية أن أردوغان عاد لصوابه، وهذا الكلام لا معنى لهُ فكيف ننتظر من الذي تخلص من أهم صديقين ساهما في صناعةِ إيجابيات حكمه أن يعودَ لصوابه!
ربما نستطيع هنا قول العكس، إن أردوغان يجهِّز للمرحلة القادمة لضياعه في أحلام يقظته، تتطلب منهُ فعلياً مركزية في القرار، فالعلاقة مع الكيان الصهيوني بدأت تستعيد شبابها، لكنها مدعومةٌ هذا المرة بانفتاح خليجي غير مسبوق على الكيان الصهيوني، كيف لا وأحد مفكري «آل سعود» طرح المزاوجة بين العقل العربي والمال اليهودي؟!
أما المناطق العازلة التي كان يروِّج لها والتي عاد الأوروبيون للحديث عنها فلم تعد كذلك، وباعتراف الأميركي ذاته بأن هذه المناطق يريدونها مناطق «أكثر أمناً» تمهيداً لطرد جميع اللاجئين الذين دخلوا أوروبة وتركيا إليها، حتى الهجوم المدبَّر من العصابات الإرهابية على مخيم «الكمونة» السوري الذي ذهب ضحيته عشرات المدنيين واتهام الجيش العربي السوري بهِ يدخل في هذا السياق، أي إعادة تعويم الحديث عن هذه المناطق باعتبار أن الأوروبيين ما زالوا مستسلمين لابتزاز أردوغان لهم في هذه القضية، لكن هل من احتمالٍ ثالث؟
لكي نتحدث عن الاحتمال الثالث، علينا أولاً أن نتذكر أن الواقعية أهم من العواطف، لأن هذا الاحتمال يرتكز على فرضيةٍ أساسها: ماذا لو تدحرج الوضع الداخلي في تركيا أكثر نحو الانفلات؟
لا يمكن إلغاء هذا الاحتمال أبداً والمعطيات كثيرةٌ، لكن هذا السيناريو هو الأسوأ للجميع بمن فيهم السوريون. هي مقاربةٌ تحتاج للابتعاد عن العواطف، هذا الكلام نقوله من باب الواقعية التي هي بالأساس النظرة للأمور بميزان الربح والخسارة. إن انفجار الوضع في تركيا لا يعني منح الإرهابيين فقط مساحاتٍ شاسعة للتحرك والمناورة، لكنها كذلك الأمر ستعطي أصحاب الطموحات الانفصالية امتداداتٍ جغرافية، مدعومةً سياسياً وعسكرياً من النقيضين الأميركي والروسي، سيكون لها ما لها مستقبلاً، بل إن انفلاتاً كهذا سيؤجل حكماً أي حلٍّ في سورية، إن كان سياسياً أو عسكرياً، أو كليهما معاً. إن انتظار انفجار الوضع في تركيا على أمل أن ينعكس ذلك إيجابياً في سورية هو دخولٌ في المجهول، لكن في الخلاصة هي مقاربة معقدة:
«العدالة والتنمية» لن يسقط بأي انتخاباتٍ لأنه يخاطِب نوعين من التطرف «مذهبي وقومي»، وبالتالي فإن ناخبيهِ كثر، وهو لن يبدل نهجه حتى لو كان الثمن اشتعال المنطقة بالكامل، واعتقاد الروس أن التلويح بالورقة الكردية بما فيها فتح ممثلية لأحد الأحزاب الانفصالية في موسكو سيبدل من سياساتهم هو نومٌ في العسل، لأننا بذلك نعطي أردوغان دون أن ندري تعاطف المتطرفين القوميين معه، إذاً ما الحل؟
الحل واضحٌ وصريح، يأتي من داخل الحدود وليس خارجها، بقطع الأذرع «التركو سعودية» في سورية. الأمر يتطلب من السوريين وحلفائهم إعادة تقييم موضوع الهدَن، تحديداً في المناطق التي تمثل امتداداً للنفوذ التركي، فلا يوجد هدنة إلا وأعادتنا للوراء أميالاً، وإن كان مركز مراقبة الهدنة يحصي الخروقات، لكنه بالتأكيد لا يحصي أوجاع السوريين ولا أعداد الضحايا، بل إنه يتجاهل تماماً أن الطرف الآخر كما قال السيد «نصر اللـه» قبلَ أمس سيكمل حتى النهاية ولن يتراجع، بل أكثر من ذلك هم عقدوا العزم على ألا يعودوا للمفاوضات حتى استعادة كامل الأراضي التي حررها الجيش وحلفاؤه ليصلوا إدلب بحلب، فماذا ننتظر؟

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن