قضايا وآراء

تاريخ وطبيعة العلاقات المصرية مع «شقيقتها» السعودية

| القاهرة – أ. د. محمد أشرف البيومي

لا يرغب أحد في إثارة خلافات بين أفراد أو دول إلا إذا كان يبغي السوء، ولكن في نفس الوقت لا بد من تقييم موضوعي لتاريخ الدول ونوعية علاقاتها وذلك من أجل حماية المصالح الوطنية. تتصاعد أهمية ذلك في ظل أمور ثلاثة: غياب أو غموض الرؤية التي تتبناها الدولة المصرية، وما يحاك لمصر من قوى متربصة محليا وإقليمياً وأجنبياً، وكذلك الأحوال الاقتصادية المتردية التي تدعو المغرضين لاستثمارها لتحقيق مآربهم الضارة لمصر. إن العلاقات الصحية والجيدة بين الدول لا بد أن تعتمد على الاحترام المتبادل وعدم تبعية دولة لأخرى، ومراعاة مصالح كل دولة وعدم استغلال الظروف السلبية لدى إحداها للحد الذي يصل إلى ابتزازها واضطرارها إلى اتخاذ مواقف لا ترتاح إليها أو الموافقة على مشاريع غير متحمسة لها أو التنازل على أجزاء من أراضيها. أما بين الدول «الأشقاء» فيرتقي الأمر إلى مستوى حماية المصالح، بل الدفاع عنها.
بالطبع تتغير العلاقات بين الدول من صداقة إلى فتور أو حتى إلى عداوة، وبالعكس، أحياناً تنمو صداقة بعد عداوة. لكن هناك مؤشرات لمثل هذا التحول، أهمها حدوث تغييرات جذرية في نهج إحدى الدول. ودون ذلك فنحن بصدد خداع أو أوهام. فعلى سبيل المثال كانت هناك علاقات حميمية إستراتيجية بين السعودية وإيران أثناء حكم الشاه، بل شاركت الدولتان في دعم أحلاف ضد عدو مشترك هو مصر الناصرية.
بعد إخفاق حلف بغداد الذي رفضه عبد الناصر أيد الملك فيصل الشاه عام 1965 في الدعوة لتشكيل حلف إسلامي مؤيد لأميركا تحت مسمى منظمة المؤتمر الإسلامي. كان العداء لناصر بذريعة أن الاشتراكية العربية كفر كما أعلنت صحيفة عكاظ السعودية بالبنط العريض في عددها الصادر في 23 أيار 1962 أن «جمال عبد الناصر كافر بالإجماع» وأن «جهاد عبد الناصر فرض على كل مسلم ومسلمة». وهذا مثال من عديد الأمثلة لتوظيف الدين في التخريب والتضليل.
ولكن الآن أصبحت إيران العدو اللدود للسعودية بعد الثورة الإسلامية في إيران وتبني الدولة الإيرانية العداء لأميركا صديقة السعودية واتخاذها مواقف مؤيدة للحق الفلسطيني بدعمها السياسي والعسكري. وفي كلتا الحالتين ظلت شيعية المذهب، ما يثبت أن الصراع القائم لا علاقة له بالخلافات المذهبية كما يزعم البعض بل إنه صراع سياسي على النفوذ. هذا الصراع المدمر والدموي والمدعوم أميركيا يحاول تغيير طبيعة الصراع في المنطقة من حقيقة أنه عربي- صهيوني إلى أكذوبة أنه شيعي- سني.
من هذا المنطلق نتحدث عن طبيعة العلاقات المصرية السعودية وتطورها عبر العقود الماضية. فقد تحولت العلاقة من عدوانية تآمرية إلى علاقة تبدو جيدة ولكنها في الواقع علاقة تبعية لطرف يبتز الظروف الاقتصادية المتردية لتحقيق طموحاته الإقليمية. تناغم هذا التغيير مع انقلاب في التوجه السياسي المصري في عهد السادات وانخراطه بقوة في المحور الأميركي وتوقيعه معاهدة كامب دافيد وتبنيه مسار الانفتاح الاقتصادي والابتعاد عن مفهوم التنمية المستقلة ما أدى إلى الخراب الاقتصادي الذي ترزح تحته مصر حالياً والذي أدى إلى تباين خطر في توزيع الثروة وبروز طبقة «رجال الأعمال». صحيح أن العلاقات توترت سطحياً ومؤقتاً مع السادات لصلحه المنفرد مع الكيان الصهيوني حيث إن الوقت لم يحن بعد لعلاقات علنية بين السعودية والكيان الصهيوني والتي وصلت الآن إلى مستوى التحالف.
شكل عبد الناصر خطراً حقيقياً على الرجعية العربية بقيادة آل سعود حتى بعد هزيمة 1967. يعبر عن ذلك بشكل واضح المذكرة السرية من والتر روستاو (مساعد الرئيس جونسون) بتاريخ 14 شباط 1967 والموجودة بمكتبة جونسون على معان كثيرة: «ناصر يستطيع منع حق مرور الطيران كما فعل بالنسبة للجسر الجوي للأردن. يستطيع جعل المقاطعة العربية أداة أكثر إعاقة للتجارة الأميركية. يستطيع أن يثير كثيراً من المشاكل للأنظمة الصديقة- ولنا- في الأردن والعربية السعودية ولبنان، ويمكنه إحضار المتظاهرين ضد قاعدة هويلس (بليبيا)، وإثارة مشاكل أكثر لإسرائيل بواسطة منظمة التحرير الفلسطينية وحتى تأميم أو إزعاج شركاتنا البترولية. وبإيجابية أكثر يظل ناصر أقوى شخصية في الشرق الأوسط…. ورغم المشاكل الاقتصادية المتصاعدة فإن الجمهورية العربية المتحدة لديها القوة البشرية المدربة والإرادة للتحديث التي تجعلها أكثر الدول المتقدمة في المنطقة».
هناك العديد من الخطابات الأميركية السرية التي تدعو السعودية إلى عدم المغالاة في موقفها في اليمن حتى يتسنى لناصر للانسحاب من اليمن ولكن فيصل يرفض حتى يدمي الجيش المصري بقدر أكبر. تمثل هذه الحالة مثالاً على عدوانية التابع التي تفوق عدوانية السيد الأميركي. ثم بدأ عدوان 1967 وجزء مهم من الجيش المصري عالق في اليمن. هذا لا يعني عدم مسؤولية ناصر في تطور الأحداث التي أدت إلى الهزيمة وخصوصاً أن ناصر أعلن تحمله للمسؤولية كاملاً.
كان ناصر العدو المشترك للإخوان المسلمين في مصر ولحكام السعودية بدءاً بمحاولة تنحيته لمصلحة محمد نجيب ومحاولة اغتياله مرة على يد الإخوان ومرة عن طريق الملك سعود الذي قدم نحو اثنين مليون جنيه إسترليني لعبد الحميد السراج رئيس المخابرات السوري للعمل على اغتيال عبد الناصر كما جاء في كتاب: (Niblock، Tim، 2006 Saudi Arabia; Power & Survival، p 41)
وفي خطاب من فيصل ملك السعودية للرئيس الأميركي جونسون عام 1966 طالبه باتخاذ اللازم لإنهاء ناصر ونظامه (Saudi Government Document 342، date 27 Dec. 1966). هذا التحفيز السري للإطاحة بناصر يتطابق تماماً مع الهوس السعودي العلني من أجل الإطاحة ببشار. كما أن التعاون الوثيق بين السعودية والسي آي إيه CIA الذي يحمل الاسم الكودي عملية شجر السيكامور، فقد نشرت النيويورك تايمز في 23 يناير 2016 بعض تفاصيله كما أن التعاون السعودي الصهيوني لتأمين البحر الأحمر أصبح معروفاً كذلك.
وعندما نستعرض باختصار شديد بعض النماذج من تآمر آل سعود على مصر التي أودت بحياة الآلاف من المصريين في اليمن وسيناء نؤكد بديهية وهي أن إدانتنا لهذه الجرائم يجب ألا تمس العلاقات بين الشعبين التي يجب أن تكون جيدة.
لقد عددت في مقالات سابقة جرائم حكام السعودية والتي تشمل اضطهاد شعب الجزيرة العربية (والذي عبر عنه برنامج وثائقي أذيع على التلفزيون الأميركي في 29 آذار 2016 (http://www. pbs. org/wgbh/frontline/film/saudi-arabia-uncovered/).
يكشف البرنامج حالة الفقر للملايين من الشعب، وسلوك السلطات السعودية في قمع المواطنين باسم الدين. كما تحدثت سابقاً عن دور السعودية في التمهيد لاحتلال العراق بعد أن كانت تلقب صدام، «حامي البوابة الشرقية العربية» (من إيران). ثم دعم السعودية لتدمير ليبيا ما أدى إلى انتشار الإرهاب فيها، ثم محاولة إزالة بشار الأسد لمصلحة الإخوان ولخدمة أميركا المتضررة من دعمه لمحور المقاومة. والآن تشن حرباً عدوانية على شعب اليمن بمساعدة أميركية وصهيونية وترتكب دون رادع أبشع الجرائم الإنسانية من استخدامها القنابل العنقودية الممنوعة وقصفها جميع المنشآت المدنية وتدمير البنية التحتية وحصارها الذي أدى إلى منع الغذاء والدواء ومعاناة المواطنين وخصوصاً الأطفال تماما كما فعلت أميركا في العراق. والآن تستغل الأزمة الاقتصادية في مصر لاقتناص جزيرتي صنافير وتيران تمهيداً لتحالفات مدانة مع العدو الصهيوني ومشاريع شرق أوسطية!
ما لم تستطع السعودية تحقيقه عن طريق التآمر والحروب أنجزته بواسطة نشر الأفكار الوهابية والتي تصب في سلوك داعش وأخواتها من المنظمات الإرهابية. رأيت كشاهد عيان عندما كنت أستاذاً بجامعة ولاية ميشغان، كيف وظفت السعودية أموالها الطائلة للقضاء على منظمة الطلبة العرب ذات الاتجاه القومي وكيف دعمت منظمات إسلامية موالية لها بأميركا. كذلك كنت أرى يومياً انتشار الفكر الوهابي بجامعاتنا المصرية وكيف خربت عقول الشباب عبر خرافات عبد اللـه عزام المدعوم سعودياً والمتمثلة في كتابه الموزع مجاناً «آيات الرحمان في جهاد الأفغان» وغيرها من الكتيبات وشرائط الكاست التي تكفر الشيعة وتحض على كراهية المواطنين الأقباط وتشوه الدين. ورأينا كيف خربت شريحة مهمة من مثقفي مصر عبر الجوائز والهبات ما ساهم مع عوامل أخرى بمحنة المثقفين في مصر وابتعاد بعضهم عن المسار الوطني. اعتبر هذا التخريب أكبر جريمة ارتكبها عصر مبارك.
أردت بهذا أن أضرب بعض الأمثلة من التآمر السعودي السابق على مصر، وهي كثيرة لأوضح التناقض الكبير بين ما تبغيه السعودية لمصر وما يتمناه الشعب المصري من استقلال كامل لدولته وتنمية معتمدة على الإنتاج وعلى الصناعات المتقدمة علمياً وتكنولوجياً، وليس على الهبات المهينة والقروض التي تعيق بل تمنع تنمية مستقلة منتجة. يصبح ذلك ضرورياً وخصوصاً أن أقلاماً عديدة انبرت في الآونة الأخيرة تمجيداً للسعودية ومآثرها بل إن أحدهم بشرنا بفجر جديد للقومية العربية بقيادتها. ومن المؤسف حقاً أن أحد الأقلام القريبة من عبد الناصر بث صوراً لعبد الناصر مع ملوك السعودية (سعود وفيصل) ونادى السعودية للاشتراك في جيش لتحرير سورية لتحقيق الديمقراطية بها!!، في الوقت الذي تدعم فيه السعودية وتركيا وقطر، وبكل الوسائل الإرهابيين الذين ألحقوا دماراً رهيبا في سورية. نسوق أمثلة محدودة لهذا التآمر حسب وثائق عديدة وأمثلة لمدى الكراهية لعبد الناصر لعل البعض يتذكر ويفعل وعيه الوطني. ومن المستغرب حقا حماس بعض المثقفين المصريين للتدليل المفتعل على سعودية تيران وصنافير.
وفي النهاية أحيي عدداً من مثقفي مصر الوطنيين الذين حافظوا على استقلاليتهم وأقول إن جزر الفوكلاند ليست بريطانية وأن «تيران وصنافير، لا مؤاخذة، مصريتان».
أستاذ الكيمياء الفيزيائية بجامعة الإسكندرية
وجامعة ولاية ميشغان (سابقاً)

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن