قضايا وآراء

بين «السندان» الألماني و«المطرقة» الأممية: هل يجرؤون على التراجع في سورية؟!

| فرنسا – فراس عزيز ديب

هكذا ومن دون مقدماتٍ هبطت الإنسانية فجأةً على البرلمان الألماني، وقرّر أعضاؤه الاعتراف بالمذابح التي قام بها أجداد «العدالة والتنمية» بحق الأرمن. لم يلتفت المهلّلون لهذا الاعتراف أنه تزامن مع إعلان الاتحاد الأوروبي، الذي تسيطر على قراراته كلّ من فرنسا وألمانيا، تمديد العقوبات على الشعب السوري، أي إن الإنسانية الألمانية التي حرَّكت ورقة الاعتراف بالمذابح الأرمنية من باب التعاطف الإنساني، هي ذاتها التي تجوِّع ملايين السوريين وتمنع عنهم حتى ما يسد رمقهم، متى سنفهم أن المفهوم الإنساني جزءٌ لا يتجزأ؟
من السذاجة بمكانٍ الظن أن البرلمان الألماني أراد عبر هذا الاعتراف الصراخ بوجه ميركل ومعاقبتها على سياستها بما يتعلق بقضية اللاجئين. هذا الأمر مراهقةٌ في التحليل، فحزب ميركل يسيطر على الأغلبية البرلمانية، والقرار لم يرفضه إلا نائب واحد فقط.
كذلك الأمر، قد يبدو أن ألمانيا أرادت أن تعاقب أردوغان نظراً لابتزازه للأوروبيين في قضية اللاجئين، لكن حتى هذا الأمر لا يبدو منطقياً، فقضية اللاجئين عمرها ما يقارب العامين، فلماذا لم تعاقبه في السابق، أم إن القضية كانت مفيدة لاستخدامها إعلامياً والذهاب بعيداً في الضغط على القيادة السورية وحلفائها؟ أما فيما يتعلق بقضية الاتفاق بين تركيا والأوروبيين حول قضية اللاجئين، فمنذ إعلان السيّئ الذكر «داؤود أوغلو» رحيله، توجّس الألمان والفرنسيون تحديداً من مصير الاتفاق، أي إن بنود الاتفاق كانت توحي بأن أردوغان هو من يبتز الأوروبيين، لكن التجربة الواقعية بما فيها القبول الهائل بهذه الأعداد الضخمة من اللاجئين أثبتت أن كلا الطرفين كان يبتز الآخر، والضحية هم الأبرياء الذين تحولوا لسلعةٍ، فما المستجد الذي دفع الألمان تحديداً إلى اللعب هذه الورقة؟
تحدثنا مراراً عن الخيارات المطروحة أمام أردوغان بعد أن أدرك تماماً أن وهم السلطنة يسقط، وأن الأمور لم تعد كما هي بعد انتقالهِ من «صفر مشاكل» إلى «صفر أصدقاء»، فالأميركي باعه بورقة الأكراد، والروسي بات «عدواً»، حتى «الإسرائيلي» لم يعطهِ ورقة رفع الحصار عن غزة مقابل عودة العلاقات، فهل قرّر رويداً العودة لنصيحة أحد أصدقائه المشتركين مع القيادة السورية بأنك والأسد تواجهان عدواً مشتركاً؟
لا نستطيع أن نجزم؛ لكن لدينا القدرة أن نحلِّل، فالقرارات الناتجة عن الحالة الإنسانية هي آخر ما يمكن للأوروبيين أن يقنعونا به، لأن ادعاءاتهم الإنسانية توازي تماماً ادعاء الوهابية أنها تمثل الإسلام. ومن ثم فإن ما نجزم به أن السبب الحقيقي للقرار الألماني ليس الرد على أردوغان في قضيه اللاجئين، قد تكون رسالة استباقية لأي تفكيرٍ بتعديل موقفه مما يجري في سورية، لكن ماذا عن باقي الملفات؟
بصورةٍ أشبه بالقص والنسخ عن الإنسانية الألمانية، أعلنت الأمم المتحدة ضم تحالف «آل سعود» في الحرب على اليمن لما يُسمى اللائحة السوداء للأمم المتحدة، لدوره في ارتكابِ المجازر بحق الأطفال، وكأن مجازره بحق البنى التحتية أو باقي فئات الأبرياء من غير الأطفال مسموحة!
قبل أن نتوجه لإدانة «آل سعود» وتحالفهم في اليمن، أليس من واجبنا أن نسأل من الذي أطلق يد «همج الصحراء» على بلدٍ عريقٍ كاليمن، هل نسيت الأمم المتحدة أن القرار 2216 لم يجرؤ على تضمين ضرورة وقف الغارات الجوية كما طلب الروس؟ أليس من دعم هذا القرار هو شريكٌ بهذه الجرائم؟ ثم من الذي باع «آل سعود» القنابل العنقودية وغيرها؟ أليس في الطليعة كل من الولايات المتحدة وفرنسا؟ فإلى أين سيقودنا هذا التشابك «الإنساني» الطارئ؟
عندما تمت الدعوة إلى مؤتمر باريس من أجل السلام في الشرق الأوسط، كان واضحاً أن المؤتمر سيفشل قبل أن يبدأ، لن يفشل لأن المستعربين اللذين حضروا متمسكون بحقوق الشعب الفلسطيني، بل إن «إسرائيل» تحديداً لا تعنيها لا مؤتمرات ولا ما شابه، أما المستعربون فلم يعد لديهم من تنازلٍ ليقدموه، أي على مبدأ (ماذا لو لم يعُد لديها ما تخلعه؟).
لا تُخفي مصادرٌ فرنسية بأن المؤتمر لا يعدو كونه فرصة لفرنسا الرسمية للهروب للأمام، فهولاند غارقٌ بطوفان المياه الذي يضرب عدداً من المدن الفرنسية، وطوفان الاحتجاجات على سياساته التي أدت إلى تحول فرنسا بكاملها للعبة بيد المال الخليجي. أما وزير الخارجية «آيرولت» فإن لم يتورط حتى الآن بتصريحاتٍ ذات سقفٍ عالٍ بما يتعلق بالملف السوري على غرار سلفيهِ «جوبيه» و«فابيوس»، لكنه في الوقت ذاته لم يبدل في التعاطي مع الملف شيئاً الذي بدا واضحاً أن القرار فيه ليس للأجهزة الأمنية الفرنسية ولا لوزارة الخارجية، بل هو حصرياً بيد هولاند.
لنثبت هذا الكلام هناك عبارة وردت في كلام هولاند خلال المؤتمر، بأن الأمور في المنطقة تبدَّلت ولا بد من سلامٍ كامل بين العرب و«الإسرائيليين». لم يتحدث هولاند عن ماهية الأمور التي تغيرت؛ هل يقصد مثلاً أن ليبيا أصبحت أربع دول، واليمن ممزق، والعراق يغرق وسورية مقطعة الأوصال- الدول الوحيدة ذات جيشٍ يمتلك عقيدة الانتماء للقضية الفلسطينية- هل يقصد مثلاً أن غرفة الارتباط بين تنظيم القاعدة في جنوب سورية- «النصرة»- و«إسرائيل» ستعني حكماً أن آخر الحكومات الرسمية الرافضة للكيان الصهيوني لم يعد بمقدورها بعد ذلك لعب هذا الدور، وأن ثمن إيقاف كل هذا الجنون هو تطويب «إسرائيل» كراعٍ رسمي للمنطقة، لأن هذا الهدف في الأساس هو سبب كل هذا الجنون؟
إذاً كل هذا التشابك يقودنا إلى نقطةٍ مفصليةٍ: ليس مسموح التراجع لكل من تورط في دماء الأبرياء في المنطقة حتى ينتصر المشروع التكفيري أو ينهزم، وما عدا ذلك كله مضيعةٌ للوقت لأن العين على سورية والباقي تفاصيل. المنظمات الدولية شريكةٌ بدماء الأبرياء، والدول التي تدَّعي الإنسانية تعوِّم إنسانيتها بما يتعلق في سورية، وفي الوقت ذاته تقوم بإغراق آلاف المهاجرين عمداً ليصلوا جثثاً هامدةً قبالة السواحل الليبية. حتى الحديث عن انزعاجٍ غربي من تعيين ليبرمان وزيراً للحرب في حكومة العدو لكونه متطرفاً يثير السخرية، على اعتبار أن باقي الوزراء بمن فيهم نتنياهو هم «حمامات سلام»! ثم لماذا لم نسمع تلك الإدانات عندما أعلن الكيان تحالفاً رسمياً مع تنظيم القاعدة جنوب سورية؟ إن تطرّف «ليبرمان» لا يفرق عن تطرف «بن سلمان»، وفاشية «أردوغان» أو «تميم» أو «البرزاني» لا تختلف عن فاشية «نتنياهو»، فكيف ستسير الأمور في قادمات الأيام؟
مازال داعمو الهدنة يكررون عبارة أن (الهدنة صامدة.. وهناك بعض الخروقات)، ربما الأدق أن (الخروقات صامدة.. وهناك بعض الهُدَن). هذا واقعٌ لم يعد بإمكاننا إخفاؤه، لنعدد المواقع التي خسرناها بعد الهدنة؛ بالأسلوب ذاته إذ تقوم «النصرة» بالاقتحام وعند قيام الجيش العربي السوري بالرد يقولون إن الاستهداف إما لمدنيين وإما لتنظيمات «معتدلة»، هذا تكرر في ريف حلب وفي ريف اللاذقية باعتراف مركز حميميم (الذي يصر على أن الهدنة صامدة!).
أما الحديث عن «هدنةٍ طويلة الأمد» في رمضان، فهو يبدو «وهماً»، إذ ليست المشكلة بالتسميات، المشكلة الدائمة بالضمانات، فهل نصدق مثلاً أن «بسمة قضماني» قادرة على أن تعطي ضمانات بالتزام أشقائها في فرع تنظيم القاعدة في سورية «النصرة» أو «جيش الإسلام» بالهدنة؟
لا يمكن الحديث عن هدنةٍ طويلةٍ الأمد وسط تقارير تتحدث عن استعداد «النصرة» لاقتحام حلب، أو عن تعاونٍ بين ما يسمى «الجيش الحر» و«داعش» كما حدث في بلدة «مرايا» في ريف حلب، حتى حصار «مارع» اشتركت فيه «جبهة النصرة» مع «داعش»، هذا الأمر يعني أننا لسنا بمرحلة خلط أوراق بين التنظيمات الإرهابية فحسب، بل هي انعكاسٌ لخلط الأوراق بين الدول الراعية للحرب على سورية، ولنتذكر دائماً أن مرحلة خلط الأوراق ليست كمرحلة التفاهمات أو التراجعات؛ هي أخطر لأننا لا نعرف متى ينفك اللجام عن هذا التنظيم أو ذاك؟ أو متى يذوب أصحاب اللحى الوهابية باليسار المتأسلم، ما دام هذا الأمر يفيد بتعويم من يشاؤه العدو؟ لكن، على العدو أن يتذكر أيضاً أن لعبة خطرة كهذه يكون لديها ارتداداتٌ عنيفة، أول تلك الارتدادات ستسمع صداها في درة الفرات «الرقة» لقطع يد «إسرائيل الشمال»، فهل يكون تاليها «تل الحارة» لقطع يد «إسرائيل الجنوب»؟ ربما الارتدادات أكبر من أن تُعد… فقط أنصتوا لخبطات رجال اللـه في الميدان.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن