ثقافة وفن

نبحث عن المعجزة وهي في قلب دمشق … الأب الياس زحلاوي لـ«الوطن»: التاريخ يدلنا على أن البشرية حاولت خلق إلهها على صورتها

| عامر فؤاد عامر

تميّزت شخصيّته بحبٍّ وتوقٍ للمعرفة، وكان من روّادها، في عمرٍ مُبْكِرٍ وبجدارة. يبحث عن الأسباب ويتفهم المسببات، وهذا وجهٌ من شخصيّته، فمن يتتبع حصيلة أعماله، ويتابع آثاره التي قدّمها خلال مسيرة حياته، سيعلم تفاصيل كثيرة عايشها الأب «إلياس زحلاوي» وعاشها، لتشكّل أوجهاً كثيرة مميّزة وناصعة في شخصيّته. وبين دمشق والقدس ولبنان كانت رحلاته الأولى في طلب العلم والمعرفة، لتتتالى بعدها رحلاتٌ وتنقلاتٌ عديدة في بلدان الأرض، إلى يومنا هذا، والتي منحته دوره في نشر المعرفة لطالبيها. الأب «إلياس زحلاوي» المولود عام 1932 في دمشق، نذر حياته للإنسانية، فكان الدّين بوابته الأهمّ للتعامل مع الإنسان، وخدمته، وتوعيته. لكن من أميز تجاربه نذكر تجربة المسرح والكتابة فيه، والتي اشترك معه في هذه التجربة «سمير سلمون» ليكون مخرجاً لها، وهذه المسرحيّات هي: «ليتك كنت هنا»، و«المدينة المصلوبة»، و«الطريق إلى كاجو»، و«وجبة الأباطرة». إضافة لترجمته عن الفرنسيّة الأجزاء الخمسة لمؤلف «تاريخ المسرح». من اللمسات التي تدلّ على فعاليّته مع الناس ومحبّته للفنّ والموسيقا كانت التجربة مع الشبيبة، فالبداية مع «فرسان المحبّة»، وبعدها «الرعيّة الجامعيّة»، وانتهاء بـ«جوقة الفرح» الفرقة التي حوت الكبير والصغير، ومن جميع الأطياف في سوريّة. ومن أكثر النقاط اللافتة في تاريخه التجربة مع الصوفانيّة، والمعجزة المُنبثقة من دمشق، فهو عرّابها الذي تابع أدقّ تفاصيلها، وكان شاهداً عليها، وكتب ووثّق كلّ ما جرى فيها. عضو اتحاد الكتّاب العرب، له مجموعة من المؤلّفات نذكر منها: «عرب مسيحيون أو مولد الإيمان»، و«حول الإنجيل وإنجيل برنابا»، و«مجد اللـه هو الإنسان الحيّ»، و«يقينان وسؤالان»، و«شهود يهوه من أين وإلى أين؟»، و«ومن الكلمات بعضها»، و«من أجل فلسطين»، و«الصوفانيّة خلال 25 عاماً. من الكتب التي ترجمها: «المجتمع والعنف»، و«فكر هيجل السياسي»، و«اذكروا الله»، و«هروبي الأخير مع يسوع المسيح»، و«الكابوس الأميركي»، و«إمبراطورية العار»، و«عندما يطلب البابا الغفران». التقت «الوطن» الأب «إلياس زحلاوي» ليكون هذا الحوار في جزئه الثاني:

ترجمتَ كتاب «الكابوس الأميركي» الذي تحدث عن عدوى الشعب الأميركي من فكرة أن اليهود هم شعب اللـه المختار، من الكتاب استقي السؤال: هل يمكننا بالمحبة مواجهة من يفكر ويخطط لتدميرنا والسيطرة علينا؟
قبل أن أتحدّث عما يجري في سورية أودّ أن أشير إلى ما قلت عن شعور اليهود بتفوقهم. هذا الشعور رافق اليهود منذ أن أتوا إلى هذا الشرق، لقناعتهم بأنهم هم الشعب المختار. هذه القناعة ولّدت لديهم شعوراً بالتفوق على جميع الناس. لا أريد أن أنزل إلى التفاصيل لأن بعض التفاصيل بشعة جداً. شعورهم بأنهم قد اختارهم اللـه من دون سائر الناس، وسائر الناس يجب أن يكونوا في خدمتهم. من يعرف ماذا جرى يوم كان اليهود يملكون قوة ما، وماذا فعلوا بسواهم يوم كانوا يملكون قوة ما، كما فعلوا في نجران بالمسيحيين في القرن السادس، ومن يعرف ماذا جرى لليهود يوم ملك المسيحيون في الغرب والشرق، السلطة الزمنيّة، يتساءل أين هو اللـه من الإنسان؟ لو كان الإنسان يتفاعل مع اللـه كما يجب أن يتفاعل، لكان الناس كلّهم اليوم في علاقات تتسم بالاحترام والمحبّة والمودّة. ولكن يبدو لي أن التاريخ يقدّم لنا الدليل على أن البشريّة جميعاً حاولت أن تخلق إلهها على صورتها. المسيحيّة كما علمنا إيّاها «يسوع»، رائعة، ليس فيها حرف واحد يمكن أن يحرّض الإنسان على ما يمكن أن يكون شيئاً من البغض، أو شيئاً من الحقد، أو شيئاً من العنف. ومع ذلك، يوم ملك المسيحيون في بيزنطة، السلطة، وفي الغرب، مع الإمبراطور قسطنطين بدءاً من عام 313، تحولوا في الأغلب إلى وحوش، وضعوا يسوع والإله الذي علمنا إياه على الرف، وحولوا أنفسهم إلى آلهة يبطشون بالناس. يؤسفني أن أقول هذا، لأنه يتعارض تعارضاً كليّاً مع ما جاء في الإنجيل. وكانوا يدّعون تمثيل السيد المسيح! ظهر قدّيسون رائعون على مستوى خارق من النبل والروحانيّة والحبّ والتجرّد والجرأة. ولكن معظم الناس كانوا منجرّين وراء سلطة زمنيّة، حوّلتهم إلى ما هو أشبه بالوحوش. وتاريخ الغرب حتى اليوم يستمر ضمن هذا التوجّه. الكتاب الذي أشرتَ إليه هو «الكابوس الأميركي». هو محطة من هذه المحطات. قناعة اليهود بأنهم شعب اللـه المختار، انتقلت إلى الشعب الأميركي، والمعروف عن الأميركيين الأولين، أنهم كانوا بمعظمهم من السجناء الذين استبعدوا. وهناك مارسوا القتل تجاه بعضهم البعض. ومارسوا القتل والإبادة تجاه سكان البلاد الأصليين، ولاسيما الهنود الحمر. الباحثون يقولون إن ما قتل من الهنود الحمر ومن سكان أميركا الجنوبيّة، يتراوح عدده بين 50 مليوناً و100 مليون. والأميركيّون اليوم في الولايات المتحدة، يعتبرون أنفسهم النخبة المكلّفة من اللـه برعاية البشر، لقيادة البشر، لتأديب البشر، لإبادة البشر إن اقتضى الأمر. هذا ما يقوله مؤلف الكتاب «روبيرت دول»… ولذلك عندما تخرّج من هارفرد عام 1966، بعد أن مارس مع أصدقائه وزملائه في الجامعة، النشاط السياسي، (وبعضهم مات في السجون، وبعضهم هرب، وبعضهم انتحر) قرر أن يغادر أميركا نهائياً، لأنه اكتشف خلال دراسته أن أميركا كارثة على ذاتها وعلى الأرض كلها. فما شاء لنفسه أن يكون شريكاً في هذه الكارثة. غادر إلى أوروبا وهو يتقن سبع لغات فوق شهادة هارفرد. علّم في عدّة جامعاتٍ في أوروبا، ثم قرر العودة إلى كندا، واستقر فيها، وهو يدرّس اليوم في جامعة «شيكوتومي». وعام 1997، أي بعد تخرجه بـ31 سنة، وضع كتابه، باللغة الفرنسية، وهو يقول في المقدّمة إني أكتب باللغة الفرنسيّة لكي أعلن تبرئتي من كلّ ما هو أميركي. مع أن الكتاب صغير جداً، لكن فحواه هائل. إذاً «روبرت دول» لا يزال في كندا، وتبرأ من كل ما هو أميركي. وكتب هذا الكتاب وكأنه يريد أن يفتح به عيون الناس: انتبهوا مما هو أميركي، ومما يمكن أن تفعله أميركا في شؤون الأرض كلّها. وهذا يتقاطع مع كتبٍ أخرى، وضعها باحثون آخرون، سواء في أميركا مثل «نعوم تشومسكي»، الذي يصف الولايات المتحدة بأنها الدولة الإرهابيّة بامتياز، وهو يهودي أميركي، وهناك كتّاب أيضاً مثل «أمين معلوف»، والكاتب الباحث السويسري «جان زيغلر» المشهور على نطاق العالم، كان لعشر سنوات، المستشار الاقتصادي للأمين العام للأمم المتحدة، وهو اليوم مقرر في نطاق الأمم المتحدة في شؤون التغذية. له مؤلفات عديدة، وقد ترجمتُ له أحد كتبه، وهو بعنوان «إمبراطوريّة العار»، وقد صدر ضمن منشورات وزارة الثقافة… إذاً نحن أمام ظاهرةٍ تجاوزت اليهوديّة، وانتقلت عدواها من حيث الشعور بالتفوق على شعوب الأرض، إلى الشعب الأميركي. والكارثة أن تداخل وتحكّم الصهيونيّة بالإدارة الأميركيّة، جعلا الإدارة الأميركيّة في خدمة الصهيونيّة على نطاق العالم. وما يجري اليوم في العالم العربي، ليس سوى مرحلة صغيرة مما كانوا يخططون له. قلتَ في مطلع سؤالك هم يخططون ويفكرون، ونحن نحبّ! هل يسع فعل المحبّة أن يواجه فعل التفكير والتخطيط؟ وأجيب بلا.
نحن بحاجة ماسّة إلى مراجعة تاريخيّة صادقة وصارمة، بسبب ما طوينا عليه من محبّة فطريّة، وبسبب ما عشنا من عهودٍ قُمع فيها الإنسان قمعاً مطلقاً. بعد الفترة الأولى من الحكم الأموي، بدأ القمع، ثم بعد الفترة الأولى من الحكم العباسي، نشأت فعاليّات تعاون بين المسيحيين والمسلمين، فعاليات ثقافيّة وعلميّة كبيرة. وفي هذه الفترة بالذات، ظهر علماء على مستوى راقٍ جداً في مجالات الفلك والرياضيات والطبّ والتشريح والموسيقا في العالم العربي. كانوا أفراداً، ولكنهم لم يستطيعوا أن يشكّلوا مؤسسات علميّة تحمل همّ العلم. ولما كان الحكم على مختلف مراحله يقمع الفرد، بات الناس يخشون على حياتهم، ولم يعودوا يسألون إلا عن حياتهم. لذلك هذا القمع الذي استمر مئات السنوات، ولّد عند الإنسان أموراً كثيرة، من أهمها شعوره الدائم بضرورة إنقاذ ذاته فقط… ثمّة شعورٌ آخر يظهر عندما يتسلم المرء شيئاً من السلطة. فهو يحوّل كل شعوره بالقمع إلى تسلّط، حتى لو كان موظفاً صغيراً في دائرة صغيرة يتحوّل إلى سلطان، وحتى في البيت الواحد، ولأن الإنسان كان دائماً مقموعاً في المجتمع، يعود الرجل إلى البيت، ويمارس تسلّطه على المرأة والأطفال.

ذكرتني في هذا الحديث بكتاب للباحث «هشام الشرابي» وهو «دراسة في مقدمات المجتمع العربي» وعن خلل التربيّة لدينا ابتداء من الخلية الأولى وهي الأسرة، وعن تسلّط الذكر في مجتمعنا.
ينسى كلّ شيء، ويضرب عرض الحائط بكلّ القيم. المهم هو الأنا! وينسى أن هذه الأنا قد تُنفَّس في جرّة قلم من المسؤول الذي عيّنه في هذا المكان. ولا يحسب حساباً لما قد يحدث بعد سقوطه من هذا الكرسي… أنا فقط! من هنا الكارثة التي نعيشها اليوم. وكارثتنا في سورية اليوم، بدل أن توقظ في كلّ واحد منا شعوره بضرورة وجود الآخر قبل وجوده، وشعوره بضرورة بناء العلاقة السليمة مع الآخر، يتصرف كل منا حتى اليوم، وكأنه هو السيّد والآخرون تابعون… ما الذي يحدث؟ قدرات هائلة في أعماقنا تحتاج إلى من ينبشها ومن ينفضها منّا، لكي نستعيد شيئاً من إنسانيّتنا…
من الشخص الذي قد يحمل على عاتقه الحلّ؟ وهل يمكن أن يكون الحلّ فرديّاً أم جماعيّاً؟
الفرد في مواجهة هذا الحال الجمعيّ، يشعر بعجز مطلق ولا يُلام. هنا تأتي المؤسسات البحثيّة والفكريّة والتربويّة، غير الموجودة في العالم العربي. نحن نكتفي بأسماء كبيرة… مؤسسة البحث كذا… المؤسسة التربويّة كذا… ويختفي وراء هذا العنوان الكبير، الفراغ الذي نعيشه. دعني أسألك: في مجال الدراسة في سورية، هل حرصنا على تنمية الفكر والتفكير عند أطفالنا؟ كلّ النهج التدريسي عندنا، من أبسط الصفوف إلى أقصى درجات الجامعة، نهجٌ تلقيني خالٍ من أي بحث، من أي فسحة للنقاش. وكثيراً ما يتحوّل هذا الخوف إلى رد فعل عفوي لدى الشاب أو الطالبة في الجامعة، خشيةً من إثارة الأستاذ، وبالتالي من اتخاذ موقفٍ من قبل المدرّس أو الأستاذ في الامتحان. نحن بحاجة إلى إعادة نظرٍ في كلّ شيء… أشير الآن إلى حالاتٍ موجودةٍ فينا، لكنها تعود إلى مئات السنوات، وتحتاجُ إلى مواجهة… آن الأوان أن يعرف العرب ما الذي يحلّ بهم، ولماذا يحلّ بهم. أين مؤسساتنا البحثيّة؟ أين هي؟ حتى اليوم ينفقون مئات المليارات، إن لم أقل آلاف المليارات على تدمير المجتمعات العربيّة كلّها. وما لم يدمّر اليوم، سيدمر بعد حين… وهذا كُتب ونُشر… ينفقون مئات المليارات على التدمير، ولا يخطر ببالهم أن ينفقوا بضعة ملايين لإنشاء مؤسسات علميّة بحثيّة ثقافيّة تربويّة، تبني الإنسان لكي يستطيع هذا الإنسان أن يجمع بين الفكر والمحبّة… بين المناعة الذاتيّة والمناعة الاجتماعيّة… لماذا يهرب بناتنا وشبابنا من البلاد العربيّة إلى الغرب؟ مناخات البحث موجودة لديهم، ولكن كلّها موجّهة. لا نتوهمنّ أن الغرب يعيش في حريّة كما نتصورها نحن… هناك حريات على مستويات عديدة. ولكن في نطاق البحوث، الحريّات تعود للدولة. ومن يشتغل في نطاق البحوث سواء العلميّة أو العسكريّة أو الطبيّة، غالباً يكون تابعاً للدولة، ولا يستطيع أن يغادر البلد، لأن البلد لا يريد أن يخسره. المقارنة ليست في مصلحتنا. ولكن المقارنة تستدعينا على الأقل، أن نتخذ من أنفسنا ومن تاريخنا، ما يرغمنا على الدعوة إلى إعادة النظر في هذا التاريخ الماضي، وفي الحاضر الذي نعيشه، بأمل بناء غدٍ يكون أفضل مما عشنا في الماضي، ويجب أن يكون أفضل… ولا يمكن أن يأتي هذا الغد إلا منا… لن يأتينا من الغرب أبداً. ستقف بعض الدول معنا، لكي تساعدنا على الوقوف. ولكن إن لم نقف مع أنفسنا، فلن يقف أحد معنا.

بالتأكيد على كلامك يمكن تقديم اليابان وألمانيا كمثال بعد الحرب العالمية الثانية حيث تمّ توظيف الدين والعلم في خدمة الإنسان.
ذكّرتني بمحاضرة ألقاها هنا، أمام مجموعة من الجامعيين والجامعيات منذ أكثر من 30 عاماً، «حافظ الجمالي». هو أستاذ جامعة. وكان رئيس اتحاد الكتاب العرب لفترة، وكان وزيراً للتربيّة والتعليم. وكان هناك مودة بيني وبينه. دعوته مرّة لإلقاء محاضرة، فتحدث وأجرى مقارنةً بين واقع العالم العربي، وواقع اليابان وألمانيا. وتكلم كلاماً قاسياً جداً. بعد المحاضرة قال لي بعض الشباب: أبونا ألا يخاف؟ قلت لهم: بلغ من السنّ عتيّا، وله مرجعيّة كبيرة في البلد، وهو وزير سابق وعضو في الحزب، وكان رئيس اتحاد الكتّاب العرب. وهو يتكلم من قلب موجوع. لا أتصور أن أحداً سيلاحقه بسبب ما قاله. ما يقوله، يقوله من ألمه ومن محبته للبلد. وكان يتكلم لا عن سورية وحسب، ولكن عن العالم العربي كلّه. وله كتاب مهم عنوانه «عربي يفكر».

كثير من المؤمنين اليوم يقولون أين زمن العجائب اليوم؟ ولاسيما الشباب، ويضيف قسم منهم: إن ما يحصل اليوم هو دعوة لنترك صلواتنا؟!
دعوني أذكركم بمعلومة: ما عمر الإنسان؟ بضعة ملايين… العلماء قالوا منذ 50 سنة، عمر الأرض لا أقل من 15 مليار سنة، إذن الإنسان ابن الأمس، وهذا الكون بتكوينه المدهش، اللامتناهي، كيف وُجد؟ أطرح سؤالاً لكي أقول لمن يتخذ مما يجري في سورية اليوم، حجة لرفض كل ما هو اللـه أو الصلاة، لأقول له: وجود اللـه لا يتوقف على وجودك ولا على وجودي، أنا وأنت أبناء الأمس، وغداً لن نكون. والإنسان كإنسان أتى في عمر الكون بالأمس، وقد ينتهي في لحظات. إذا ما جّن جنون بعض الحكام، ونشبت حرب ذريّة، لن يبقى إنسان حيّ على الأرض. هذا الأمر قرره الكثير من العلماء. إذاً هذا الكون كيف وُجد ومن أوجده؟ مجرد هذا السؤال يفرض عليّ كإنسانٍ عاقل، أن أقول هناك إذاً قوّة أوجدت هذا الكون. طبعاً سيقولون لي: وهذه القوّة من أوجدها؟ هاهنا الجواب الذي طلع به الفلاسفة العرب، إذ سمّوا اللـه «الواجب الوجود». ليس لدينا جواب يفسر لنا كيفيّة وجود الله، ولكن حقيقة وجوده، شئنا أم أبينا، قائمة، الفلاسفة العرب سمّوا اللـه «الواجب الوجود»، تماماً كما أنظر إلى هذه الطاولة وأقول: هناك نجار صنعها. لا يسعني أن أقول: إن هذه الخشبات أوجدت نفسها بنفسها بهذا الشكل. هذا الكون الهائل يحتاج إلى من يكون قد أوجده. عقلٌ هائلٌ جبّار. إذاً سؤالي أنا: هل من علاقة بين الناس والله؟ الديانات تقول إن اللـه بادر وأرسل أنبياء. والمسيحيّة تقول: إن اللـه في حبّه للإنسان أرسل كلمته… تجسّد ومات ليقول للناس: إنني أحبّكم، فأحبوا بعضكم بعضاً فقط… يرفضون هذا التعامل مع اللـه بسبب ما يحدث اليوم. دعونا نتساءل: هذا الذي حدث ويحدث وسيحدث، من المسبب له؟ أيسعني أن أتهم اللـه به؟ مشكلتنا في هذا الشرق أننا نلقي كل شيء على الله. إذا حدث حادث ما، نقول: هكذا يريد الله… إذا اختار شاب صبية نقول الله، وإذا تاجرٌ لص سرق المليارات، نقول اللـه فتحها بوجهه… ننسب كلّ شيء إلى الله. نحن مطالبون اليوم بالتفكير الجدّي، أوّلاً في طبيعة العلاقة مع الله. اللـه أشبه بالشمس، أستطيع أن أشتم الشمس، ولكن هذا لا يمنعها من أن تطلق نورها ودفئها عليّ، ولن أطالها من قريب ولا من بعيد. عليّ أن أبحث في شؤون الأرض عن مسؤوليّة الناس في ما يحدث في الأرض، ثمّ أعود إلى ما تقول الدّيانات. الديانات تدعو إلى المحبّة. اليهوديّة حوّلت دعوتها إلى تسلّط على البشر، إلى فوقيّة. جاءها أنبياء يدعون المسؤولين فيها لكي يعودوا إلى الجذور، فقُتلوا كلّهم، هذا تاريخ اليهوديّة. وجاءها السيد المسيح ليذكّرهم بضرورة العودة إلى الصراط المستقيم، فقتلوه. الإسلام حاول أن يدعو الناس إلى الرحمة. ما الذي فعله المسلمون ببعضهم البعض؟ سؤال أطرحه، وهو برسم المسلمين. المسيحيّة في الماضي أخطأت، وجاء بابا، هو البابا «يوحنا بولس الثاني»، وتجرأ وراجع الحسابات كلّها، وطلب من صحفي إيطالي أن يجمع له تصريحاته بهذا الشأن، وينشرها في كتاب. وصدر الكتاب في 3 لغات. صدر في عام 1997 في اللغة الإيطاليّة، والإنكليزيّة، والفرنسيّة. وأنا رأيت أن أترجمه، وترجمته ونشرته في عام 2011. البابا راجع المواقف، ودعا الناس في الكنيسة الكاثوليكيّة إلى مراجعة الحسابات كلّها، وإلى اتخاذ مواقف جديدة من شؤون الأرض والناس. يوم الكنيسة منعت العالم الكبير «غاليليو» من متابعة أبحاثه، كانت مخطئة. لم يجرؤ أحد على اتهام الكنيسة بهذا الخطأ، حتى جاء البابا «يوحنا بولس الثاني» وقال أخطأنا. وشكّل لجاناً علميّة لتراجع ملف «غاليليو» وغير «غاليليو»، واتخاذ المواقف المناسبة. وأنا أنتظر اليوم من المسلمين من يجرؤ ويدعو إلى مراجعة الحسابات بالنسبة إلى التاريخ الماضي. تعامُل الإنسان مع اللـه أساء إلى الإنسان، وهو لا يستطيع أن يسيء إلى الله. ولكنه أساء إلى الإنسان. لو كان المسلمون بنسبة الرحمة التي يدعو إليها القرآن، لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه. لو كان اليهود أيضاً يدعون إلى احترام الإنسان وقدسيّة الإنسان، بالطريقة التي يدعو إليها الكتاب المقدّس، والتي دعا إليها الأنبياء لاستعادة هذا الموقف، لما وصلوا إلى ما وصلوا إليه اليوم من قتل ودمار وتخطيط للقتل. البشريّة بحاجة إلى إعادة الحسابات في تعاملها مع الله. هذا شأن الناس. أمّا شأن المعجزات، فأين المعجزات؟ أقول لكم إن ما حدث في الصوفانيّة، كان يفقأ العين لمن يريد أن يرى. وكنت أنا أول من رفض أن يذهب. بدأت الصوفانيّة بانسكاب زيت من صورة صغيرة للسيدة العذراء… انسكاب زيت معطّر. أتت سلطات كنسيّة وحكوميّة، ورأت انسكاب الزيت. وترافق انسكاب الزيت من الصورة، بانسكاب زيت من الصبيّة التي كانت قد تزوّجت قبل 6 أشهر… في اليوم التالي لبدء انسكاب الزيت، جاءتني مجموعة من جوقة الفرح تطلب إليّ أن أمضي وأدلي برأيي، فاعتذرت. عادوا 3 مرّات. وهم يعرفون أني أنا حادّ بطبعي. لا… لا! نعم… نعم!. ومسايرةً لهم في المرّة الثالثة، مضيت معهم.

عفواً لكن لماذا رفضت الذهاب إلى الصوفانيّة؟ وعلى ماذا اعتمدت في رفضك؟
رفضت لأنني منذ أن كنت طفلاً في السابعة، حدث لأحد أطفال صفي، واسمه «خليل حسكور»، في المدرسة التي تسمى اليوم «بلابل المحبّة»، مدرسة لورد في برج الروس، وحدث له شيء، وقيل في دمشق آنذاك إن المسيح يظهر له. فغاب الطفل عن المدرسة 3 أسابيع. وكان الناس يتدفقون إلى البيت، ويحملون معهم تنك الزيت، ويضعون التبرعات ويصلون ويذهبون. وبعد 3 أسابيع، عاد خليل إلى المدرسة، وانتهى كلّ شيء. فولّد عندي هذا الأمر القناعة وأنا طفل، بأن في أمور الدين هناك أشياء غير سليمة قد تحدث، وما يُغرس في الطفل يصعب اقتلاعه. فضلاً عن ذلك، أنا دَرَسْتُ في القدس على يدّ كهنة غربيين، ودَرَسْتُ في فرنسا، وقراءاتي كلّها في معظمها غربيّة، وقد ولّد هذا عندي توجّهاً فكريّاً يستبعد دائماً ما يمكن أن يكون حدوث معجزات رخيصة. لذلك عندما طُلِب إليّ أن أذهب، رفضت. ولكن في المرّة الثالثة خجلت منهم ومن نفسي، ومضيت معهم. وهناك شاهدت أموراً كثيرة ليس لي من الوقت ما يكفي لأشرحها، ولكني كتبتها كلّها في كتب باتت معروفة، وتُرجم بعضها إلى الفرنسيّة والإنكليزيّة والبرتغاليّة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن