من دفتر الوطن

فارس العطار يترجل

| وضاح عبد ربه

كنت صغيراً حين التقيت للمرة الأولى بـ«عمو فارس»، ذاك الرجل ذو الهامة الشامخة والابتسامة الدائمة والنظارات القاتمة.. كان الصديق الأقرب لوالدي، وكان يزور باريس باستمرار ليبقى فيها بضعة أيام يلتقي بأصدقائه ويطمئن عليهم، وعلى أحوالهم، ويبادلهم الود بالود والابتسامة بالضحكة.
مرات عدة رافقت والدي للقاء عمو فارس في فندق «نوفا بارك» الباريسي حيث كان يفضّل الإقامة، كنت أستمع إلى حديثهما وهما يتشاركان هموم الأمة العربية وما آلت إليه الأحوال في لبنان تحديداً.. علمت آنذاك أن عمو فارس من رجال الأعمال الناجحين جداً، وعرفت أيضاً أن لديه شغفاً بالعمل الصحفي، وأنه كريم جداً وشهم جداً، وكان لوالدي تجربة معه، لا مجال لذكرها هنا، لكنها كانت تجسد معاني الصداقة والوفاء والرجولة بحق.
كبرت وكبر عمو فارس وبطبيعة الحال والدي الذي كانت مشيئة اللـه أن يرحل باكراً عن هذه الدنيا.
خلال كل هذه السنوات تعرفت إلى سامي ومصطفى وسمر ولينا، وتشاركنا مراراً الموائد والولائم والأفراح واكتشفت أن كل صفات عمو فارس نقلها لأبنائه وبناته فكانوا مثال التواضع والنبل والإخلاص.
عرفت الكثير من والدي عن عمو فارس لكني كنت أجهل بعض ما قدمه لوطنه الأم سورية ولمئات العائلات السورية في الداخل وفي المهجر، وهو كثير ولا يحصى.
حبه للصحافة دفعه للتأسيس في كندا -حيث أقام لأربعة عقود-، مجلة «كندا والعالم العربي» لم يكن يريد أن يحقق منها أي هدف سوى نشر اللغة العربية والثقافة العربية، والدفاع عن قضية العرب وتوطيد العلاقات بين الكنديين والعرب، وتحديداً السوريين فصدرت بثلاث لغات الفرنسية والإنكليزية والعربية.
عين قنصلاً فخرياً لسورية في مونتريال، لكنه في الواقع كان سفيراً لسورية ليس في كندا فقط بل في كل دولة أو مدينة زارها، فكانت سمته ومصدر فخره وقوته واندفاعه، عشقه الأبدي لدمشق ولسورية.
أقام معرض «سورية أرض الحضارات» واستحق التكريم في حين كان يؤكد باستمرار أن التكريم ليس في مكانه لأنه يقوم بواجبه تجاه وطنه.
نال العديد من الأوسمة وكان لا يحب الأضواء على الرغم من شغفه بالعمل الصحفي، كان متواضعاً لدرجة أن أبواب بيته في مونتريال أو في دمشق لم تغلق يوماً في وجه من كان يقصده.
حين توفي والدي، دخل عمو فارس على العكاز يرافقه أبناؤه وكانت الدمعة تسكن عينيه، جلس طويلاً وهو يراجع شريط الذكريات مع صديقه الدمشقي والباريسي خلال حقبة من الزمن.
حين اندلعت الحرب على سورية عام 2011 ترك كندا نهائياً وعاد إلى دمشق، أراد أن يكون في وطنه الجريح ليساعد قدر الإمكان على تضميد الجراح، وكان على ثقة أن سورية لن تنكسر وستنهض.
في آذار عام 2011 منحه الرئيس بشار الأسد وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة وهو أول وسام يمنح في تاريخ الدبلوماسية السورية لقنصل فخري، وذلك تقديراً لجهوده في الدفاع عن مصالح سورية، وخاصة في خدمة الجالية السورية في كندا التي ستفتقده كثيراً.
أمس ترجل الفارس ورحل عمو فارس، ومع رحيله خسرت سورية واحداً من كبار رجالاتها وسفرائها.
رحمك اللـه عمو فارس كما كنت أناديك حتى آخر لقاء بيننا، كنت رمزاً للنبل والوطنية والشهامة والكرم وكنت أباً لكل السوريين، وليس لسامي ومصطفى وسمر ولينا فقط.
كنت سورياً بامتياز وسنفتقدك وسنفتقد سوريتك، كما ستشتاق إليك دمشق وياسمينها، وعزائي هو أنك ستلتقي مجدداً مع صديقك ياسر عبدربه في جنان الخلد بإذن اللـه لتنعما بالراحة الأبدية دون أن تلاحقكما هموم الأمة العربية ومصائبها.
وكل العزاء للدكتور عبد الرحمن وإخوتي سامي ومصطفى وسمر ولينا الذين سيكملون المشوار دون أدنى شك حاملين راية سورية وخدمة السوريين كما تربوا وترعرعوا فخورين بأنهم أبناء فارس العطار الذي تعجز كل الكلمات عن وصفه.

رحمك اللـه عمو فارس.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن