قضايا وآراء

قبيل أن ينقشع الضباب..

| عبد المنعم علي عيسى 

ما بها الذات الجماعية البريطانية حائرة لا تلوي على مستقر لها وهي تبدو كمن لا تستطيع تلمس آفاق مستقبلها وإن حاولت أن تفعل ينتابها قلق غامض لا يلبث أن يتحول إلى اضطراب فـ.. «تسونامي» وأنى لإعصار يصدر عن أمة بحجم – وعراقة- الأمة الإنكليزية أن يهدأ قبيل أن ينقشع الضباب في بلاد أشهر ألقابها التي تعرف بها هي بلاد الضباب.
منذ أن أفلت شمس الإمبراطورية البريطانية رسمياً في عام 1956 بعد فشل العدوان الثلاثي على مصر بدأ «النَفَس» الإمبراطوري البريطاني يحاول بطرق أخرى فتلك هي طبائع القوة التي إذا ما خسرت- أو هزمت- في مسار أو محاولة فإنها تحاول من جديد عبر مسارات أخرى أو محاولات جديدة.
كانت تجربة رابطة الكومنولث التي يمثل الجنيه الأسترليني عصبها وعمودها الفقري ليست مشجعة أو غير ناجحة بالقدر الكافي ناهيك عن وجود تململ اسكوتلندي بدا وكأنه ذو جذور عميقة ويقوي من عريكته محيط أوروبي بدا وكأنه يمتلك نزعة عارمة تسود القارة برمتها سمتها الكبرى «القطيعة» أو العودة إلى الهويات الضيقة وكل ما من شأنه أن يؤدي إلى التنافر أو استحالة العيش مع الآخر.
تعثرت التجربة السابقة وخصوصاً خارج قلاعها الثلاث التي ضمت إلى جانب إنكلترا كلاً من اسكوتلندا وويلز فاندفعت بريطانيا نحو نموذج بدا وكأنه مشجع منذ انطلاقته الأولى التي جمعت ست دول تفاهمت على الحديد والصلب ثم لم يلبث أن خرج إلى صورته الحالية في عام 1993 مع بقاء باب الانتساب مفتوحاً حتى اكتمل عقد الثاني والعشرين بلداً بانتساب أوكرانيا عام 2013 كانت الميزة الكبرى في الاتحاد الأوروبي هو أن تلك الصيغة كانت لا تقف عند حدود بل تسير من تفاهم إلى آخر أوسع حتى إن تلك السلسلة ضمت بين حلقاتها توافقاً حول كيفية ذبح الذبائح داخل دول الاتحاد.
في التداعيات تبدو الصورة الأولية السريعة أن اليمين الأوروبي كان أول المستفيدين وإن كان هذا الأخير غير متساوٍ في حظوظه التي تبدو ضعيفة في فرنسا وعالية جداً في السويد وهولندا والدانمارك وفي المدى الأبعد قد يؤدي الإعصار البريطاني إلى فتح شهية منظمات أخرى تبدو مترهلة لربما في مقدمتها جامعة الدول العربية وبدرجة أكبر مجلس التعاون الخليجي فالأولى باتت مثقلة بسطوة المال الخليجي وغياب مراكز الثقل الفعلية بينما الثانية تحوي من التناقضات الشيء الكثير وقد كان لافتاً ترحيب الإمارات وبعدها بقليل سلطنة عمان بنتائج الإعصار البريطاني الذي اعتبرته مسقط فاتحة لآفاق جديدة على الرغم من تباعد المدارات.
أبرز المستفيدين في القارة العجوز هم الألمان الذين باتوا منذ اليوم على موعد مع آلاف المستثمرين ورؤوس الأموال الهاربة من بريطانيا «غير أوروبية» وهي لن تجد ملاذاً آمناً لها إلا في اقتصاد ألماني يبدو أكثر مرونة وأهم ما فيه أنه يملك القدرة على مواكبة المتغيرات واجتراح قوانين قادرة على استيعابها بسرعة كبيرة، وإن كان هذا الأمر نفسه قد يشكل مدعاة للقلق على المدى الطويل فزيادة الثقل الألماني (الثقيل أصلاً) سوف يدفع نحو اختلال كبير في التوازنات التي تقوم عليها القارة العجوز وهو ما تسبب في السابق بحربين عالميتين دفعت البشرية فيهما ستين مليون قتيل على أقل تقدير.
عندما تضطرب القارة العجوز يكون لزاماً على العالم برمته أن يقلق فعلى امتداد خمسة قرون ماضية كانت التحولات التي تشهدها تلك القارة مدخلاً – ومفتاحاً- لاضطراب – أو استقرار- العالم ومن الواجب القول إن الحدث البريطاني قد رمى بصخرة كبيرة في بحيرة هذا الأخير.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن