ثقافة وفن

قوائم كاذبة…. ران صمت شديد على قاعة المؤتمر

| د. راتب سكر

-1-
عقدت المنظمة العربية للنضال القومي والإيمان الديني والفكر الاشتراكي والثقافة والعلوم، اجتماعا عاجلا، عشية عيد الفطر الماضي، الذي صادف يوم الأربعاء السادس من تموز، عام 2016.
بدا المندوبون الذين حضروا الاجتماع على عجلة من أمرهم، تحت ضغوط مواعيد السفر، التي ستقلّ كلاً منهم إلى أعالي صعيده البعيد، ليستقبل العيد مع ذويه، وعشيرته الأقربين، وقد منحتْ بُغْية العجلان الفكرة التي طرحها ياسين الفرجاني بريقا أخاذا، وجمالا آسرا.
تلخّصتْ تلك الفكرة، بأن يفوّض جميع المندوبين أمين سرّ المنظمة ناهض صائم الدهر، تفويضا شاملا ساميا، بالإعداد المناسب اللائق لعقد المؤتمر العربي العام للنهضة والعلوم.
تابع عبد الله أخبار هذا الاجتماع في الصحف التي اعتاد قراءتها، وفي أقنية الشابكة التي تدرّب على التفاعل معها مؤخرا، ففوجئ باسم ياسين الفرجاني، الذي كان منه في موقع الصديق والأستاذ والأب، ورحل عن دنيانا الفانية سنة 2005، بعد أن عرف بوساطة مسامراتهما الطويلة الحانية، الكثير عن مشاركته في المباحثات التي جرت مطلع عام 1958، لقيام اتحاد بين سورية ومصر، واقتراحه الحماسي المفاجئ بقيام وحدة اندماجية فورية عاجلة بين البلدين.
سرعان ما اكتشف أن في الأمر تشابه أسماء فقط، فعاد إلى سيرته الأولى، يفكر في طريقة تيسّر له حضور ذلك المؤتمر العتيد، والإسهام في أعماله، هو الذي قدّم غير بحث علمي حول أهمية مثل هذه المؤتمرات، أيام متابعته الدراسات العليا في قسم علم الاجتماع من كلية الآداب، في جامعة دمشق، قبل سنوات طويلة.

-2-
كان المفوض السامي ناهض صائم الدهر، قد أنجز في جامعة عربية مرموقة، قبل سنوات، رسالة بعنوان: «تطور الغزل بين الجاهلية والإسلام»، حاز بها شهادة الدكتوراه، وراح موضوع الرسالة يهيمن على تفكيره يوما بعد يوم، حتى بات لا يرى العالم إلا بنظارة أحد الغزليين الجاهليين أو الإسلاميين. ومن الراجح أن نظارة من هذا الطراز لم تفارق عينيه في عز انهماكه في ترتيب اختيار أسماء الأعضاء المشاركين في المؤتمر المنشود.

-3-
افتتحت أعمال المؤتمر بالنشيد الوطني الحماسي للدولة العربية المضيفة، وسط تذمر عدد غير قليل من مندوبيه من وجود مقاعد مخصصة لشعراء الغزل في الجاهلية والإسلام، وفي مقدمتهم: امرؤ القيس، وعمر بن أبي ربيعة، وقيس بن الملوح، وجميل بثينة، وكثيّر عزة، وعروة ابن عم عفراء، وغيرهم، يجلس على مقعد كل منهم، طالب من طلبة الدراسات العليا، يختص بدراسة شعره.
ضرب رئيس المؤتمر بمطرقته الخشبية الطاولة الوثيرة، محاولة الحد من صراخ المتحاورين، ولمّا أخذ منه الغضب كلّ مأخذ، مع تنامي شعوره بفشل مطرقته في التأثير، خلع حذاءه بسرعة البرق، وضرب به الطاولة ضربا مبرحا، حتى ران صمت شديد على قاعة المؤتمر، سرعان ما شقّتْ غلالته الرمادية قهقهة عبدالله من زاوية قصية يجلس فيها، عبّرتْ عن تذكّره ما قرأه عن الزعيم الروسي السوفياتي نيكيتا خروتشوف، وضربه طاولة إلقاء الكلمات في الأمم المتحدة بحذائه، في مطلع الستينيات من القرن العشرين.

-4-
تتالت كلمات الخطباء، موجّهة سهام النقد إلى اختيار أعضاء المؤتمر، معظمهم، من شعراء الغزل في الأدب العربي: قديمه وحديثه، وبلغت تلك السهام «كعب أخيل»، عندما صرخ أحد المحتجين، متسائلا: «هل تريدون شنق إسرائيل، بالدبابيس الذهبية التي تزيّن شعر المرأة التي تغزل بها نزار قباني؟».
وشجّع هذا الكلام زميلا له، يجلس في وسط القاعة، فوقف على الكرسي، ثمّ على الطاولة الصغيرة الممتدة أمامه، بحذائه كبير الحجم، ملوّحا بقبضته، مهددا متوعدا، مفنّدا صلات كثيرين من أصحاب الأسماء التي ترددت في أروقة المؤتمر، بالحب وفنونه وجنونه، رافعا طبقات صراخه إلى أعلى مداها، وهو يصيح: «هذه القوائم في جيبي، تفضح الأسرار كلّها!..كل اسم أمام اسم المرأة التي يحبها صاحبه… (وتابع صراخه كالمعتوه، بينما يكاد ما يشبه الزبد يرغي على شفتيه).. أسماؤكم في هذه القوائم».

-5-
خافت الفتاة الأنيقة الجالسة قرب عبد الله، وبلغ خوفها مداه، عند سماعها تأكيد خطيب المؤتمر المفوّه وجود القوائم والأسماء مقيدة فيها، فارتعدت، مشتّتة الرؤى، تفكّر بالمواقف المحتملة لذويها، الذين تأخرت عن إخبارهم بنيّتها الارتباط بعبدالله مع إطلالة عيد الأضحى القادم.
وقفت مرتجفة مكفهرة، وقالت له  لاهثة متمتمة: «هلم بنا نهرب، علينا مغادرة قاعة المؤتمر من فورنا… أخشى أن يكون اسمي مكتوبا في القوائم».
ضحك عبدالله ضحكة عالية، ومشى في مكانه واثق الخطوة، مهدّئا من روعها قليلا، مربتا على حقيبتها النسائية الجلدية، قائلا: «لا تخافي… ليس ثمة ما يدعو إلى الخوف والقلق… أمضينا العمر… نحن نحب … وهم يعدون القوائم… وما هي إلا قوائم كاذبة!». ولمّا استمر صراخ المتحاورين، أعلن رئيس المؤتمر، مستعينا بمطرقته المسكينة، تأجيل الجلسة مدة نصف ساعة.

-6-
نهض عبد الله من نومه متعبا متثاقلا، تحت وطأة ما رآه، من فنون وشجون كادت تحوّل مناماته إلى كوابيس، وقصّ على بعض أصحابه رؤياه، بطريقته المعهودة التي تخلط الجد بالهزل، والدموع بالضحكات، وفي الوقت الذي راح فيه يقلب زوايا قصصه وغصصه ورؤاه، أخرج كل من سامعيه ورقة وقلما من محفظة معلّقة برقبته، وراح يرتب قوائم كاذبة مناسبة، يحسب في درجاتها سلّم صعود إلى ردهات المؤتمر العربي العام للنهضة والعلوم…

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن