ثقافة وفن

الصحافي «التائه» الأمي والسياسي الماجن والحرامي الأبله الدجال إسكندر الرياشي

شمس الدين العجلاني: 

هل تجاوز كل الخطوط الحمراء، وروى تاريخاً لم يروَ!؟ ولم يريدوا له أن يُكتب أو يُروى!؟
هل كان تائهاً بين المال والمجون والسياسة والصحافة، أم إنه فعلاً هو الصحافي الظريف الغريب!؟ الصحافي الأمي الأبلة الدجال!؟ أم المؤرخ الصادق!؟
يبدو أن إسكندر رياشي يحمل كماً هائلاً من التناقضات، هو الغارق من رأسه لأسفل قدميه بالفساد المادي والمجون والعمالة للمستعمر الفرنسي، وهو الصحافي والمؤرخ الصادق الذي نقل صورةً صادقةً عن ذاك الزمان، وتحدث بكل وضوح عن الحفلات الصاخبة التي كانت تقام للأتراك ومن ثم للفرنسيين في حي سرسق البيروتي الشهير، وأن فن الرشوة هو لبناني بكل امتياز!؟
أسهب أسامة عجاج المهتار في وصفه فقال: «إسكندر الرياشي (البلاي بوي) الأنيق، سمسار الفرنسيين وعميلهم باعترافه، لاعب القمار مع كبار السياسيين، والآكل على موائدهم ومشاركهم في حفلاتهم (الرومانية) الصاخبة وصفقاتهم، والشاهد على فضائحهم الجنسية، كان أفضل مؤرخ لتلك الحقبة من تاريخ لبنان الممتد من نهاية الحرب العالمية الأولى إلى سنة 1958… الفرق بين رياشي وسواه من أبناء عصره أنه كان حرامياً (جنتلمان) في حين كان معظم أترابه من سياسيين وصحافيين حراميين حاف».

من هو إسكندر رياشي؟
ولد إسكندر رياشي عام 1888م في لبنان بقرية الخنشارة، الواقعة على بعد عشرة كيلومترات شمال شرقي بيروت، درس بالكلية الشرقية بزحلة، تنقل ما بين فرنسا والولايات المتحدة الأميركية ولبنان ودمشق، عمل مع المستعمر الفرنسي والبريطاني! وكان يتقن اللغتين الإنجليزية والفرنسية فكان معاوناً لحاكم البقاع الفرنسي، وكان متعاوناً مع المستعمر البريطاني في الوقت نفسه! وكان حاضراً معركة ميسلون مع المستعمر الفرنسي حيث كان ملحقاً بالمكتب الثاني الفرنسي، كما عمل مترجماً في القنصلية الفرنسية، وانتخب نقيباً للصحافة اللبنانية عام 1947، وجُدد انتخابه للمرة الثانية. ومع ذلك لم ينج النقباء السبعة الذين سبقوه من لسان قلمه وسخريته. وحين كان نقيباً للصحافة كتب يقول «بين السبعة نقباء سلفائي كان خمسة لا يعرفون الكتابة، أو بالأحرى إذا كتبوا فيكتبون بجهل وبفقر كاملين».
تقاضى الرشوة من الرؤساء والوزراء والأعيان من الفرنسيين والسوريين والمصريين.. ولم يكن يخجل بذلك بل على العكس تماماً فهو «حرامي جنتلمان» وآمن بقول الصحافي الفرنسي هنري دي روشفور: «الذين ليس عندهم مال يستطيعون بكل سهولة أن يكونوا حرامية» وهو حين عاد من نيويورك إلى بيروت بحراً، كان مفلساً لا يملك شيئاً فانزوى إلى ركن في الباخرة لا يستطيع فيه أن يتمدد- على حد تعبيره».
يقول الرياشي عن نفسه: «أنا لو رجعت إلى أصلي لكنت اليوم رئيس وزارة في لبنان مكان رياض الصلح أو شيخاً من الأزهر. إذ إنه لم يمض على آل الرياشي مئة وخمسون سنة عندما كانوا عرباً مسلمين أقحاحاً ينزلون في ربوعهم بمنطقة الصباح في اليمن. وكان والدي يعود إلى أصله من وقت لآخر، لذلك سماني: «الحسن»، وكنت مليح الوجه، وظللت هكذا حتى الأربعين. وبعد الاسم المسلم الجميل سموني الإسكندر تيمنا باسم الإسكندر ذي القرنين. وقد أكون حملت كل شيء في الحياة ما عدا القرون– جريدة أخبار اليوم المصرية 1948م نقلاً عن جان دايه».
تزوج الرياشي في سنة 1920 من ماري قهوجي ورزق بعدة أولاد هم: جان قنصل لبنان العام في بريطانيا، مارك صحفي، جوزف، كوليت، تيودور، ناتاشا وروميو.
توفي الرياشي في بيروت يوم 14/11/1961م، ودفن في قريته الخنشارة. ترك لنا مجموعة من الأعمال الأدبية والسياسية، منها (سيف الدولة) قصة، ترجمها عن الفرنسية، (مذكرات ايليد دور، قصة ذات فضائح) عن الإنكليزية، (أهل الغرام)، (عصابات الغرام)، (نساء من لبنان)، (رؤساء لبنان كما عرفتهم)، كتاب (قبل وبعد)، كتاب (الأيام اللبنانية)، (نعيش مع الالهة) بالفرنسية، (حب الملوك والسلاطين)، (بنات من دون رجال)، (مجانين ومجنونات الحب)، (لصوص الغاب) و(السامرية على بئر يعقوب).
إضافة إلى العديد من المقالات السياسية والأدبية التي نشرها في الصحف والمجلات التي أسسها أو عمل بها مثل جريدة «الوطن الجديد» في ولاية نيويورك، جريدة «الطان» الفرنسية في بيروت، جريدة «البردوني» في زحلة، جريدة الصحافي التائه.
ويقال إن هنالك قبيلة الرياشي في اليمن التي تسكن في محافظة البيضاء، وسبب تسميتهم بالرياشي يعود للسلطان رياش بن علي بن مراد بن أدد (مذحج). وبعضهم قال إن الرياشي نسبةً لباران ذو رياش بن سدد بن قيس بن حيقي بن ِحميَر بن سبأ الأصغر» وقد تولى عرش سبأ عام 321 ق. م. وأيضاً قيل هم من القبائل الغسانية (الغساسنة) وهم من الحدادين من الأزد من كهلان القحطانية.

الصحافي الأمي الأبلة
غريب هذا الصحافي، السياسي، المؤرخ، الماجن، المرتشي، الجاهل، الوطني، العميل، المحتال، صديق الرؤساء والوزراء والحكام.. غريب هذا التناقض الذي عاشه اسكندر الرياشي!؟ فقد روى هو بنفسه بداياته فقال: «حاولت في البداية أن أكون محامياً دجالاً فلم أنجح، فموظفاً فلم أطق نير الوظيفة وغطرسة الرؤساء، فشمام هواء وقطاف ورد، فكدت أموت جوعاً، فمهاجراً، فسافرت إلى أميركا وعدت مفلساً لأنني لم أستطع أن أحمل الكشة».
وذات يوم من أيام 1910م دخل الرياشي على سرايا بعبدا فرأى صحافياً يدخل على المتصرف فيستقبله هذا مرحباً به أجمل ترحيب، فيقول الرياشي: «فحدثتني نفسي أن أصبح صحافياً وحصلت في الحال على رخصة جريدة سميتها «البردوني» وأصدرت منها العدد الأول ولم أكن أعرف كتابة كلمة واحدة. وأعتقد أنني أول صحفي زاول هذه المهنة وهو يكاد يكون أمياً ساذجاً إلى حد البلاهة. ولم يمض عليّ شهر حتى كنت أحرر جريدتي بلغة مقبولة وأسلوب شائق من غير أن أضطر لمساعدة أحد».

يقبض من فوق الطاولة
يُروى عن الرياشي صاحب جريدة «الصحافي التائه» أن أحد رؤساء الجمهورية قال له: «لا أعرف كيف أكافئك!» فأجاب الرياشي يا فخامة الرئيس بعد اختراع المال لم يعد هناك حاجة إلى التساؤل!».
الرياشي يقول إنه يقبض من فوق الطاولة وهم يقبضون من تحت الطاولة، ويتهم السياسيين والصحفيين والقبضايات بالقبض!؟: «عندما عبد اللبنانيون الذهب لم يكن أحد يعرفه قبل بيروت في الأيام الفينيقية ثم الرومانية ثم البيزنطية ثم العربية، ومن بعد ذلك العثمانية، وأخيراً اللبنانية».
رأى الرياشي أن المستعمر الفرنسي دخل لبنان بالرشوة قبل أن يدخلها بالقوة العسكرية: «خمسة ملايين وخمسمئة ألف جنيه، وهي القيمة الباهظة التي خصصها الفرنسيون للدعاية لهم في لبنان… المال، الرب الثاني عند جميع الناس، والرب الأول في بيروت عاصمة لبنان، قاعدة التجارة والمتاجرة منذ أيام الفينيقيين… هكذا ابتاعت فرنسا الانتداب عندنا، قبل العاطفة الفرنسية– المارونية، بالجنيهات المصرية، التي كانت عملة الفرنسيين الرسمية عندما وصلوا مع الإنكليز في تشرين الثاني 1918 للبلاد اللبنانية».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن