الأولى

«سكووب»

| وضاح عبد ربه 

بعيداً عن الحدث الأساسي وفشل محاولة الانقلاب على «السلطان» رجب طيب أردوغان التي شغلت العالم والسوريين خاصة، وبعيداً عن كل ما قيل ويقال وسيقال عن تلك المحاولة، وإن كانت جدية أم مدبرة؟ وكيف سيستثمر أردوغان الحدث وما بعده ويحكم تركيا، وتأثير ما حصل في الصعيد الإقليمي والدولي؟ وبانتظار أن تتكشف تفاصيل ما حصل، وكيف حصل، ولماذا حصل الآن؟ أتوقف عند الحديث الأخير للرئيس بشار الأسد لمحطة «إن بي سي» الأميركية.
صحيح أنه ليس من عادتنا في «الوطن» أن نعلق على حوار يجريه الرئيس الأسد مع القنوات العربية أو الغربية، ونكتفي بنشر الحوار كاملاً، تاركين للقارئ حرية التعليق وقراءة السطور وما بينها، والتنبؤ بما ستخوضه سورية في المستقبل القريب أو البعيد، لكن الحوار الأخير الذي أجراه الرئيس الأسد مع قناة «إن بي سي» الأميركية، والمنشور كاملاً في هذا العدد، جعلني أتوقف عند عدة نقاط، وليعذرني القارئ مسبقاً عن الإطالة، لكن لا بد من شرح بعض الأمور التي قد لا تكون معروفة للجميع.
من خلال عملي طوال العقدين الماضيين في حقل الإعلام، وما كونته من معارف على مدار هذه الفترة مع صحفيين غربيين، أتلقى شهرياً العديد من الاتصالات تسأل عن كيفية التقدم بطلب لإجراء حوار مع الرئيس الأسد، وعادة ما أقدم المشورة وأرشدهم إلى أرقام هواتف المكتب الصحفي في رئاسة الجمهورية، وأجزم أن هناك العشرات بل ربما المئات من الطلبات موجودة في الرئاسة تنتظر الموافقة والتوقيت المناسب.
أنطلق من هذه المقدمة للحديث عن الحوار الأخير الذي أجراه سيادة الرئيس مع قناة «إن بي سي» الأميركية، فالحديث لم يكن عادياً كباقي الحوارات التي شاهدناها على مدار سنوات الحرب على سورية، وكان موجهاً للجمهور الأميركي وعلى واحد من أهم المنابر الأميركية، ومع محاور «قاس» حاول طوال فترة الحوار إحراج الرئيس الأسد إلى درجة أن بعض المتابعين اعتبروا أنه تجاوز حدود اللياقة ليصل إلى حدود الوقاحة، وهذا ليس دقيقاً في علم الإعلام، إذ من حق الصحفي أن يسأل ما يشاء وكما يشاء، وهذه العبارة بالذات سمعتها من أكثر من صحفي سبق أن حاور الرئيس الأسد، ففي بداية كل لقاء وقبل البدء بالتصوير يقول الرئيس الأسد لمحاوره: اسأل ما تشاء ولا تتقيد بأي محظورات لأنه ليس لدي ما أخفيه، وكثيراً ما تفاجئ هذه العبارة الصحفي الضيف المعتاد على بروتوكولات محددة حين يقابل رؤساء الدول العربية أو مسؤولين أدنى مستوى، إذ عادة تكون الأسئلة منسقة قبل فترة من الزمن وكذلك الأجوبة، ولا يوجد رئيس دولة عربية قادر على مواجهة الصحفيين الأجانب وغير الأجانب كما يفعل الرئيس الأسد وبهذه الثقة والأريحية كما شاهدناه منذ يومين في الحوار موضوع هذه الزاوية.
وأعود لمقدمة هذه الزاوية والطلبات التي يتلقاها المكتب الصحفي في رئاسة الجمهورية، إذ إن العديد من الصحفيين الأجانب، يبحثون عما يسمى «سكووب» باللغة الإعلامية، أو ما يمكن ترجمته بـ«خبطة صحفية» وذلك من خلال أمرين، الأول الحصول على اللقاء، وهذا بحد ذاته امتياز لكل صحفي، والثاني وهو الأهم بالنسبة لأغلبيتهم، طرح أسئلة جريئة قد تحرج الرئيس أو تدينه، أو تدفعه للاعتراف بأمر ما لطالما اتهمه الغرب فيه من دون أن يملك أي إثبات عليه، والملاحظ أن أياً من الذين أجروا مثل هذه الحوارات لم يتمكن ولو للحظة من تحقيق أي من مقاييسه وأهدافه، باستثناء نجاحه في الحصول على الموعد وإجراء لقاء هو كله «سكووب».
نذكر جميعاً كيف قامت الصحفية الأميركية الشهيرة باربرا والترز عام 2012 بإعادة مَنتجة اللقاء الذي حصلت عليه مع الرئيس الأسد وحذفت بعض الجمل والعبارات لتزييف الكلام وانتزاع «سكووب» مخادع، ما اضطر الرئاسة السورية إلى إعادة بث اللقاء كاملاً وأدى إلى اعتذار قناة «إي بي سي نيوز» رسمياً، فتبينت حقيقة ما قاله الرئيس الأسد، لا ما حاولت الصحفية أن تجعله يقوله.
خلال الحوار الأخير، الذي كان جريئاً للغاية، كان الرئيس الأسد أكثر من هادئ تجاه المحاولات الاستفزازية للمحاور، كان يخاطب العقل أولاً ويفضح ازدواجية المعايير ثانياً، ويقدم شرحاً مفصلاً حول ما تتعرض له بلاده من حرب شرسة تشنها أكثر من دولة من خلال مرتزقة ينتمون إلى أكثر من 100 جنسية زُج بهم في سورية، بعد أن تم تدريبهم وتمويلهم وتسليحهم بهدف قتل أكبر عدد ممكن من السوريين وتدمير البنى التحتية والسطو على السلطة، مدعومين برغبات وأحلام دول إقليمية وأجنبية، تطمح إلى زرع أزلام موالية لها بغض النظر عما يريده السوريون أو ما سبق أن قرروه من خلال انتخابات رئاسية كانت أم برلمانية.
المحاور أراد وبإصرار أن «يشيطن» من جديد صورة الرئيس الأسد من خلال اتهامات مبطنة داخل الأسئلة، فاتهم الجيش السوري بقتل الأطفال واستخدام المواد الكيماوية، لا بل أشار إلى المحكمة الجنائية الدولية انطلاقاً من مقولة الغرب إن «الرئيس يقتل شعبه» ومن خلال أكذوبة القصف العشوائي، وحاول انتزاع موقف سوري رسمي من الانتخابات الرئاسية الأميركية القادمة، والإشارة إلى «مؤامرة» روسية أميركية على الرئيس الأسد، مع أن الإعلام الغربي لطالما رفض نظريات المؤامرة ولا يؤمن بها.
أجوبة الرئيس الأسد كانت أكثر من واضحة وشفافة وواقعية وعقلانية، فهو بكلمات ومفردات بسيطة وضع حداً لطموح الصحفي بالحصول على «السكووب» الذي كان يبحث عنه، وقدم له شرحاً اختصاره أن سورية تتعرض لحرب، ولم تقرر يوماً أن تخوضها، وأن القرارين الوحيدين اللذين اتخذا خلال السنوات الخمس الماضية كانا: حماية الشعب السوري والحوار مع المعارضة التي تقبل بالحوار لحمايتها أيضاً من ألاعيب الغرب، وهذا واجب رئيس الدولة الذي ينص عليه دستور الجمهورية، وانطلاقاً من ذلك يصبح السؤال المنطقي الذي يجب أن يوجه للرئيس الأسد: كم عدد السوريين الذين تمكنتم من حمايتهم طوال هذه السنوات الخمس، وليس كم عدد السوريين الذين قتلوا؟ فالتاريخ سيحاسب الجيش السوري على الذين حماهم وقدم لهم الأمن والأمان، وأنقذهم من مخالب الإرهاب، وهم بالملايين ولن يُحاسب على الإرهابيين الذين قتلهم وخلص البشرية منهم، أما الذين لم يقتلوا في سورية وهربوا من خلال تركيا وبمعرفة أجهزتها وبتسهيلات منها، ها هم يرتكبون ما يرتكبونه من إرهاب في أوروبا ودول أخرى، وهرب معهم الفكر الوهابي الذي تفشى نتيجة دعمه دولياً في سورية وغض النظر عن داعميه ومموليه، ليجتاح المجتمعات الأوروبية وخاصة في صفوف الشباب الذين تعلموا الوهابية في المدارس المنتشرة على كامل مساحة أوروبا، والممولة والمدعومة علناً من السعودية.
هذا هو المنطق وهذا هو العقل السياسي الذي يمتلك رؤية ومعرفة بأعدائه وهويتهم وأهدافهم وتفكيرهم، وهذا ما شرحه الرئيس الأسد لمحاوره بمفردات واضحة ووقائع لا مجال للتشكيك فيها.
نعم حربنا مختلفة مع الإرهاب عن حرب واشنطن وباريس ولندن، حربنا هي للدفاع عن سورية والسوريين، أما حربهم فهي لتدمير سورية من خلال الإرهاب الذي برعوا في استخدامه بدءاً من أفغانستان مروراً بالعراق وتأسيس داعش، وصولاً إلى سورية ودعم تنظيمات وفروع القاعدة مثل جبهة النصرة وأخواتها، التي قال عنها يوماً وزير الخارجية الفرنسي السابق لوران فابيوس «إنها تقوم بعمل جيد في سورية»!! على اعتبار أن العمل الجيد يكون حين يقتل السوريون، أما العمل السيئ فيكون حين يقتل أي مواطن غير سوري!!
هذا هو الخلاف، وهذه هي المعايير المزدوجة التي حاول المحاور استخدامها ناسياً أو متناسياً الملايين الذين قتلوا في العراق نتيجة «خطأ»، فبدلاً من أن يحرج الرئيس الأسد بأسئلته، بات هو المحرج حيث يعجز عن الدفاع عن قيادات الغرب التي تسمح لنفسها بشن الحروب وقتل الملايين من دون أي مسوّغ أو محاسبة، في حين تعمل على حماية التنظيمات الإرهابية ورعايتها في سورية.
وعن نظرية «المؤامرة» التي وفقاً للمحاور تعمل واشنطن وموسكو عليها لإزاحة الرئيس الأسد، كان الجواب واضحاً جداً: إن روسيا دولة قيم، أما الولايات المتحدة فهي دولة صفقات، وبما أن حليف سورية هو المدافع عن القيم والقانون الدولي، فلا مكان لمثل هذه المؤامرة إلا في العقول الأميركية.
حاول المحاور الحديث عن الخوف أو الرعب من الدولة العظمى المسماة الولايات المتحدة الأميركية، فسأل إن كان الرئيس الأسد خشي الضربات الجوية التي هددت بها واشنطن منتصف 2014، فكان جواب الرئيس أنه لم يخش يوماً مثل هذه الضربات لأنها قائمة منذ اليوم الأول على سورية، وكان على المحاور أن يدرك أنه في حال كان الرئيس الأسد يخشى القوة العسكرية الأميركية أو غضب البيت الأبيض وتهديداته، لفعل مثل الرئيسين التونسي زين العابدين بن علي والمصري حسني مبارك، وتهرب من مسؤولياته تجاه حماية الشعب، وكلنا يعلم ما العروض التي قدمت للرئيس الأسد لمغادرة الحكم والسماح للمرتزقة بحكم سورية.
هذا السؤال وغيره وخاصة الذي يتعلق بـ«الدموع» يذكرنا بشهادات عدة ومن قادة وزعماء كبار قالوا علناً إن الرئيس الأسد ليس من الذين يخشون الحرب ولم يكن كذلك يوماً، بل كان على الدوام رجلاً شجاعاً حتى في أصعب الأوقات وواثقاً من الانتصار لأنه يدافع عن الحق، فهو رجل استثنائي لم ترهبه كل الدول العظمى التي حاولت وعملت واستثمرت على رحيله، لأنه ببساطة كان مدعوماً من شعبه الذي وحده يقرر مصير الرئيس من بقائه أو رحيله.
وفي الحديث عن الشجاعة، لا بد أن نشير أخيراً إلى تلك التي تحلى بها الرئيس الأسد في معرض إجاباته بشكل عام عن أسئلة الصحفي الأميركي، فكان يتحدى الولايات المتحدة الأميركية من على واحد من منابرها الأكثر انتشاراً، ويفضح ممارساتها ويتحدث عن علاقات ندية معها، إن حصلت، وعلى علاقات مبنية على الاحترام المتبادل لا على علاقة العبد مع السيد كما يفعل الحكام العرب.
هذا اللقاء من دون غيره ربما يجب أن يشاهده الحكام العرب ليتعلموا فقط معاني الكرامة والشجاعة، ويتعلموا مبادئ المنطق والحق والواجب الوطني في الدفاع عن مصالح دولهم وشعوبهم لا مصالحهم الشخصية.
وأختم بأني على ثقة بأن الرئيس الأسد يرتاح لهذه اللقاءات الجريئة والمستفزة أكثر بكثير من لقاءات المجاملة، لأن من طباعه التحدي وتفنيد الواقع وتقديمه كما هو، وعذراً من الصحفي الذي لم يحقق «خبطته» التي كان يطمح إليها، وهنيئاً لنا نحن السوريين على رئيس يملك كل هذه الشجاعة لمواجهة الإعلام الأكثر خبثاً في العالم والذي عمل على مدار سنوات على تشويه صورة سورية والسوريين.
نعم قد تكون «جريمة» ولا تغتفر بالنسبة للغرب، إنقاذ وحماية ملايين السوريين، لكنها شرف ووسام يعلق على صدور كل قواتنا المسلحة وقائدها العام، وهذا أقل ما يمكن أن نقدمه لشهدائنا الذين ضحوا بأغلى ما لديهم لحماية سورية والسوريين.
ولنتذكر أن الحرب هي حرب إعلامية، والرئيس الأسد مقاتل بارع في الإعلام كما في الميدان وفي السياسة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن