قضايا وآراء

اختبار إطفاء الحرائق

| عبد المنعم علي عيسى 

لعبت أنقرة منذ 19 تموز 2012 دور رأس الحربة في محاولة الإطاحة بالنظام السوري وتفكيك الجغرافيا السورية، جرى ذلك على امتداد أربع سنوات كاملة قبل أن تفعل عدة عوامل فعلها دافعة بالموقف التركي نحو إعادة التموضع تجاه الحدث السوري لتطفو على السطح دعوات تفرد في إطلاقها في البدايات رئيس الوزراء التركي الجديد بن علي يلدريم منذ وصوله إلى السلطة في 22 أيار 2016 قبل أن يصبح ذلك المسار عاماً ليصل ما بعد محاولة الانقلاب التركية الفاشلة 15/7/2016 إلى رجب طيب أردوغان نفسه الذي قال: «إن بلاده ستعمل على إصلاح علاقاتها مع الجوار» 18/7/2016.
بررت مصادر الخارجية التركية خيار أنقرة الجديد بضرورة التقارب مع دمشق بأن ذلك يأتي كخطوة ضرورية لضمان عدم قيام كيان كردي مستقل في الشمال والشمال الشرقي السوري، والغريب في الأمر والذي لا توجد له حتى الآن إجابة شافية هو كيف فكر رجب أردوغان بعملية «قضم جغرافية» كانت الميول إليها ملموسة حتى إن العديد من وسائل إعلام هذا الأخير كانت عندما تأتي على ذكر حلب تقول: «سنجق حلب» في استعادة لمسمى عثماني واضح المرامي والدلالات، ولم يكن يفكر في الآن ذاته أن مساراً من هذا النوع سوف يؤدي بالضرورة إلى قيام كيان كردي مستقل في الشمال السوري وهو الذي أعلن مراراً بأن هذا الأمر الأخير يشكل تهديداً لا يمكن لأنقرة احتماله.
قبيل الدخول في تداعيات محتملة للحدث التركي على مسارات عدة نرى أن من الواجب إثارة نقطتين مهمتين الأولى: أن الانقلاييين قد استطاعوا وإن فشلوا بالنتيجة وضع سقف للقبضة الأردوغانية على السلطة، صحيح أن ردة الفعل التي لا تزال سارية المفعول تظهر وكأن الأمور تتجه باتجاه الإمساك بمزيد من خيوط السلطة في تركيا من قبل أردوغان إلا أن الأمور بالنتائج وهذا الأخير لن يكون باستطاعته العودة إلى ما قبل 15/7/2016 إلا في حالة واحدة هي تقديم تنازلات لا نهائية للخارج الذي يتمثل بالقوى والأزمات المؤثرة على الداخل التركي، والثانية: إن ردة فعل الأردوغانية الواسعة التي لا تزال فصولها تتالى ظهرت وكأنها كانت محضرة سلفاً فقد قام أردوغان ومنذ اللحظات الأولى لرجحان كفته في إعادة الأمور إلى نصابها بإقالة ثلاثة آلاف قاضٍ مدني ومثلهم في أجهزة الاستخبارات وقبيل أن يتضح أي شيء يذكر، نحن هنا لا نؤيد نظرية المؤامرة لتفسير الحدث التركي لكن الراجح أن يكون (أردوغان) قد استطاع هو وأجهزة استخباراته اختراق الانقلابيين فعلم بمخططاتهم بالمكان والزمان ولم يشأ أن يقمع الحركة وهي في مهدها بل أراد دفعها باتجاه التنفيذ بعد أن عمل على اتخاذ التدابير الكفيلة بإحباطها لاستثمارها في مشروعه الذي أطلقه قبل سنوات ولربما هذا هو ما يفسر قوله (إن الانقلاب قد جاء هدية من السماء).
هناك أمر آخر من المهم المرور عليه سريعاً أيضاً هو أن ثنائية (الانقلاب – ردة الفعل عليها) قد أبرزت الإنتماء التركي إلى مناخات العالمثالثية التي كانت أوروبا تقف عندها طويلاً وقد صح تقديرها في ذلك التشخيص وهو الأمر الذي يبرزه تصريح رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون قبيل الانقلاب التركي بأسابيع (وكذلك قبيل الاستفتاء البريطاني الشهير) حيث قال: «سيكون بإمكان تركيا الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي في عام 3000 ميلادية» كان من الواضح أن الرؤية الأوروبية للتركيبة التركية تقف مطولاً أمام تلك السياسات الحادة التي يعتمدها أردوغان بما لا يتناسب مع درجة المرونة التي يتمتع بها النسيج المجتمعي التركي والتي تذكر بحالات مشابهة شهدتها الديمقراطية الأوروبية قبل ما ينقص قليلاً عن قرن من الزمان عندما صعد أدولف هتلر إلى السلطة في العام 1933 عبر صناديق الاقتراع التي صوتت له فيها أغلبية ساحقة لم يحققها أي زعيم ألماني قبله ولا بعده أيضاً، ذهب هتلر إلى اعتبار الأمر توكيلاً أو شيكاً على بياض كما يقال لكي يفعل ما يشاء فكان أن اندفعت القارة العجوز إلى ذلك الحدث المدمر الذي شهدته على مدار ست سنوات كاملة (1939 – 1945).
كان لافتاً إلى أن وسائل إعلام الغرب بأغلبيتها الساحقة قد حملت أردوغان مسؤولية ما حدث ثم أعادت الكرة من جديد بتحميله مسؤولية ما يمكن أن يحدث في أعقاب تلك الممارسات التي أنتهجها ولا يزال في أعقاب الانقلاب الفاشل.
سورياً منذ اللحظات الأولى للإعلان عن نبأ الانقلاب تراصفت الفصائل المسلحة السورية في محورين اثنين الأول تزعمته حركة أحرار الشام التي أصدرت بياناً نارياً تحدثت فيه عن حالة تماهٍ روحية قصوى مع تركيا واصفة ليلة الانقلاب بالليلة الفاصلة في التاريخ ليتراصف وراءها في هذا الموقف بضعة وأربعون فصيلاً مدعوماً من الأتراك والثاني تزعمته جبهة النصرة التي أصدرت هي الأخرى بدورها بياناً قالت فيه: «إن رعاية اللاجئين والمستضعفين غير مقدمة على مصلحة التوحيد» لتنهي بيانها بشن هجوم عنيف على رجب طيب أردوغان الذي قالت عنه إنه «لا تجوز مناصرته لأنه طاغوت علماني وهو يظاهر الكفار على المسلمين».
وفي ردة الفعل السورية الرسمية كانت دمشق كعادتها متريثة بانتظار أن تنجلي الصورة ولم تذهب نحو الانجرار إلى مغازلات لا جدوى حقيقية منها ولربما برزت بأجلى صورها في التصريح الذي ذكرناه سابقاً لأردوغان 18/7/2016 الذي قال فيه إن بلاده ستعمل على إصلاح علاقاتها مع الجوار وعلى الرغم من أن تركيا لديها الكثير من الخلافات مع هذا الجوار في إيران وروسيا والعراق ومصر إلا أن الإشارة كانت تحديداً إلى سورية وربما يمكن الاستدلال على ذلك عبر العديد من المؤشرات فقد عملت وسائل الإعلام التركية القريبة من أردوغان على تهميش التهديدات الأوروبية التي وجهت إلى أنقرة بوقف المفاوضات الأوروبية معها فيما يخص الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي في حال أعادت العمل بعقوبة الإعدام، أيضاً أخذت تلك الوسائل تتناول مسألة مهمة هي التفكير ببدائل إستراتيجية في حال حدثت القطيعة التركية مع واشنطن إذا ما أصرت هذه الأخيرة على عدم تسليم الداعية التركي فتح الله غولن الذي تتهمه السلطات التركية بالوقوف وراء محاولة الانقلاب الأخيرة.
هناك العديد أيضاً من المؤشرات التي يمكن ذكرها مثل حالة البرود التي اعترت العلاقات التركية السعودية ومن كان حاضراً أو يتابع وسائل إعلام الرياض أو المحسوبة عليها في اللحظات الأولى للإعلان عن نبأ الانقلاب كان من السهل عليه أن يلمس فرحاً خفياً لم يفتضح أمره قبل أن يأتي القرار بتعديل نغمة الخطاب مع ساعات الفجر الأولى ليوم 16/7/2016 كل ذلك مؤشرات على أولويات التقارب التركي مع الجوار السوري العراقي كمدخل لتقارب مع كل من طهران وموسكو إلا أن ذلك لا يعني أن مساراً خطيراً كهذا قد ابتدأ أو اتخذ القرار فيه وانتهى الأمر فمن دون ذلك عوائق كبرى من أهمها هل تستطيع أنقرة فعلاً تحمل أكلاف القطيعة مع واشنطن؟ ثم هل هناك تفكير حقيقي في بدائل إستراتيجية حقيقية لتلك التي قام عليها الأمن القومي التركي على امتداد ما يقرب من سبعة عقود وإلى الآن مثل مظلة «ناتو» والعلاقة بين البنتاغون والمؤسسة العسكرية التركية؟ تركيا في مرحلة مخاض عسير وأردوغان أمام اختبار إطفاء الحرائق ولربما كان هذا الأخير موفقاً في اختيار (الإطفائية) الجديدة بن علي يلدريم.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن