ثقافة وفن

السفر.. توهةُ الشعراء وهيمانهم … الشعراء المحدثون تعاملوا مع تراث السفر  .. تعاملاً حساساً موحياً إلى أنه للإنسانية

أحمد محمد السح

يشكّل السفر موقفاً شعرياً حديثاً، عبّر الشعراء عنه ومن خلاله، عن مدلولات نفسية وفكرية، وأحياناً اجتماعية لازمت تطور حالتهم المعرفية وتطور القصيدة بحد ذاتها. فعلى الرغم من أن الشعراء الحديثين ليسوا هم من جاء بفكرة السفر لتعبر عن حداثويتهم، بل على العكس اقترن مفهوم السفر بالمفهوم الملحمي، منذ غلغامش، وربما قبلها بكثير، وما رحلات الظعائن والوقوف على الأطلال في القصيدة العربية الصحراوية إلا تعبير عن التغير المكاني بمفهومه البعدي، ليكون انعكاساً للتغير النفسي داخل الشاعر الذي دفعته الحاجة في داخله لأن يغامر ويبحث عن المجهول، فكان السفر في أصله بحثاً عن المجهول، لتقليص أبعاد الخوف الذي سكنه حد الملل، فانطلق مترنحاً بين موقفين: موقف الثبات وموقف التحول، ليكون الشعر في مرحلة التحول هو الشعر الحقيقي، على حين شعر الثبات هو حالة اللاشعر، أو حالة التوق إلى التحول عن المكان وإن كان تحولاً في البال قبل الترحال. والشاعر التأسيسي أبو تمام حين قال:
وطولُ مقام المرء في الحي مخلقٌ
لديباجتيهِ فاغترب تتجدّد

كان يعبّر عن المعنى الحرفي لضرورة حالة التحول من المرء بشكل عام عن المكان الذي يطيل البقاء فيه لأن هذا البقاء سيؤدي إلى ترهل ديباجتي الإنسان، أي خديه، وهما كناية عن حسن صورته.
غير أن الشعراء المحدثين عمدوا إلى التعامل مع تراث السفر تعاملاً حساساً موحياً معتبرين أنه تراث للشاعرية الإنسانية من خلال بحثهم في سفر الأنبياء والشعراء والقديسين وكبار المتصوفة والعشاق. فقرأ الشعر الحديث غلغامش والإسراء والمعراج وأوليس، والمسيح وكريشنا والصعاليك والخَضِر وابن عربي وجيرار دي نرفال وغيرهم قراءة الباحثين عن المطلق ليترجموا حسرة الإنسانية أمام المجهول المعرفي الذي دفعه إلى السفر بسبب تراجع الحالة المعرفية أمام تقدم الفناء الذي يشن هجومه ليفقد الروح تساميها الدائم من اكتساب التجارب. فالتجربة وتجددها وانعكاسها على الشعراء اقترنت بكونهم قادرين على تنويع لغتهم أو الوصول إلى اكتساب لغةٍ جديدة، وربما اقترن تغيير لغة الشاعر بتغييره للمكان الذي هو فيه، ويحضرني تطور لغة الشاعر علي بن الجهم الذي قال مادحاً:
أنت كالكلب في حفاظك للود
وكالتيس في قراع الخطوبِ
وحين انتقل وعرف تغيير المكان قال:
عيون المها بين الرصافة والجسر
جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
هذه الحالة التي نجمت عن تغيير واقع الشاعر المعيش التي سبقتها رغبة الشاعر نفسه في تغيير واقعه المعيش، فراح يجوب الأرض لتتنوع تجربته ويزول خوفه من المجهول.. بزيادة المعرفة التي يأتي بها السفر. فاغتنت مصطلحاته ومفرداته واغتنت مدلولات القصيدة، فحتى لفظة السفر اقترنت عند الشعراء بمدلولات عدة، كان أكثرها نفسية تعطي الانطباع الدائم لدى القارئ حول فهم جديد عن مفهوم السفر. فلقد اقترن مفهوم السفر عند عدد من الشعراء بمفهوم المشقة والتعب، الناجم عن عدم قدرة الشاعر على الهدوء وراحة البال للبقاء في مكان واحد لكونه إنساناً غير ملتصق بما في داخله: ففي ديوانه (صهيل الرياح الخرساء) – قصيدة: (صيفاً يهاجر السنونو) يقول الشاعر السوري (فايز خضور):
«عبرتُ بحيّكم قبل انهزام الليل، أحزاني تجرجرني
ضلوعاً هدّها التحنانُ والسفرُ».
فهو يريد من مفهوم السفر حالته الأولى وبعدها الأقرب إلى الذهن، فمن الطبيعي أن يقترن مفهوم السفر عند الإنسان بمفهوم التعب والإرهاق، تحديداً إذا كان السفر قسرياً ودائماً، وأن يلبس لبوس الشوق والحنين الناجم عن الحب، أليس الحب سفراً في الآخر؟! أليس السفر وجداً متحركاً؟! وإن كان هذا النوع من السفر يأتي بمفهوم التوهان اليائس الذي يصيب الشعراء فيهشلون بأرواحهم (في كل وادٍ يهيمون) محتفظين بمفهوم الغربة الجارحة والحرقة التي يعيشونها، وإن كان هذا السفر سفراً خيالياً لواقع لن يأتي، فإنما ذهب هدراً كذكرى مع أحلام لن تعود، تميز بهذه الرؤية الشعراء الوجدانيون الذين قال عن لغتهم الشاعر (عبد الباسط الصوفي) في قصيدة (نهاية):
«صديقتي، طويتُ أحلامي
وسرتُ، لا ظلٌّ لأيامي».
فكان سفر عبد الباسط الصوفي سفراً ليس ذا نتيجة، أو ذا جدوى من الوصول إلى لقاء أو معرفة بل انتهي إلى حيث يصبح الإنسان بلا عودة ولا شراع، متمايزين بذلك عن السفر الشاقولي من الأرض إلى السماء، فقد برز من أهم المسافرين فيه سفر أبو العلاء المعري ودانتي في «رسالة الغفران» و«الكوميديا الإلهية»، فسافروا إلى الما وراء مدفوعين بالبحث عبر هذا العطش البشري من هذا المغلق الغامض، لملاقاته قبل المجيء. أما شعراء الستينيات والسبعينيات يمكن أن نجد أن الهم السياسي، دفعهم لمفهوم السفر، أي ضيق حال المكان دفعهم إلى الارتحال عنه وإن كانت رحلاتهم في كثير من الأحيان رحلات لفظية غاضبة تلبس حرقة الفقد قبل السفر. فالشاعر السوري (محمد عمران) في كتابه (مرفأ الذاكرة الجديدة) يقول:
«طوينا
خيامنا البيضاءَ
للرحيلِ.
(هذا وطن الخوف
التسكع
الحزن النعاس).
قلنا: السفر النجاةُ
هذي الأرض أعقمت». (بتصرف).
هذا الضيق هو ضيق نجم عن ضيق الواقع الذي أحاط بالشعراء، حالة الانفصام بين واقعهم، وبين رؤاهم، ودفعتهم قلة ذات اليد وتعقد السفر كفعل مكاني إلى القبوع في أماكنهم والامتناع عن التجدد الذي دعاهم إليه شيخهم أبو تمام.. فباتت قيود الحرية أكبر من وجودها، كفكرة في الخيال، ما دفع الشاعر رياض الصالح الحسين إلى القول:
«بين يديك أيها العالم:
النافذة مشرعة وأنا وحيد
(من يأتي إلي من)
الأضواء ساطعة، أنا معتم
(من يضيئني من)
السفر.. السفر.. السفر..
هو ما أريد
الحرية.. الحرية.. الحرية
هي ما أطلب»
وهو يكرر الحرية والسفر ثلاث مرات متقابلة، علّه من خلال هذا التوكيد اللفظي يفتح مخرجاً من دوامة السجن الداخلي التي عاشها كل شعراء المرحلة. فالسفر ربما يكون من خلال الشيء لملاقاة نقيضه، فلربما كان مفهوم السفر على بساطة طرحه مفهوماً متغيراً ومتنامياً في الفهم الشعري له، فقد اعتبرت في كثير من الأوقات دليلاً على الأمل وأحياناً دليلاً على الانبثاق وربما في أكثر الأحوال عبر دخول التيه بكامل الرغبة.
وحالياً يعيش الشعراء في سورية والمنطقة مفهوماً قديماً- جديداً للسفر فهم يذكرون بمرحلة شعراء المهجر، والشعر المهجري، لكونهم جيلاً شاباً أُقصي عن أوطانه جسداً وروحاً ليعيش حالة الاغتراب الحقيقي التي كان يعيشها روحياً وهو يتوق إلى السفر، لكن حالات السفر والتهجير التي جعلت من هؤلاء الشعراء الشباب جيلاً يعيش التوهان في بلاد كان يحب أن تنهض بلاده إلى مصافها لا أن تقذفه حروب بلاده ليكون ضيفاً غير محدود الزيارة على أرضها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن