ثقافة وفن

بين الماضي والحاضر … حرفيون نادرون في التراث السوري

| سوسن صيداوي

طبيعي أن يكون في جنبات الزمن شيء انطوى عليه أو شيء جديد، ورغم كل المساعي المبذولة والاجتهادات المطلوبة يبقى دوام الحال من المحال، وبالمقابل النضال من أجل البقاء أمر غريزي، مهما كانت الظروف معاكسة أو مساعدة أو مهيئة للاندثار، واليوم ونحن في مواكبة مساع حثيثة لمنع اندثار حرف التراث السوري، يوقفنا ما هو مفاجئ وجميل، من خلال ظهور ما هو جديد واحتضانه تحت عنوان التراث، وعلى سيرة الجديد قام الفنان التشكيلي «علي عجيب» بإطلاق حرفة جديدة وهي «الرسم التشكيلي على القش»، واليوم وفي هذه المحطة سنتكلم عن هذا الجديد وعما هو دمشقي عتيق أصيل، عن القيشاني الدمشقي، هذه الحرفة التي عاشت مئات السنين لتعبّر عن «السّورية» بفنونها العريقة، التي استطاعت رغم كل ما يقتنيه العالم من جمال أن تكون فريدة يصعب منافستها أو حتى تقليدها.

قيشاني… انظر
«القيشاني» هو خزف ملون، ولكنها كـ«كلمة» في القاموس العربي تأتي بمعنى «انظر»، ومن هذه الكلمة ينطلق الحرفي أحمد رمضان إلى الاجتهاد والمثابرة كي تكون أعماله من القيشاني الدمشقي محط أنظار، باعتباره الوحيد في الوقت الحالي، وهو الذي امتهن هذه الحرفة من أبيه وهو بعمر أربعة عشر عاما، وما زال إلى الآن يسعى لابتكار وإضافة كل ما هو جديد إليها رغم قدمها، أحمد رمضان «عمر هذه الحرفة أكثر من ألف وخمسمئة عام، إنها تعود للعصور الإسلامية الأولى، وتطورت حتى وصلت إلى ما هي عليه في وقتنا هذا، وفي ظل الاحتلال العثماني تم استغلالها وكانت أكثر رواجا، ونقلوها بعد ذلك إلى العالم الأوروبي، وبالنسبة لي أنا تعلمتها من أبي، وبالفعل عندما تعلمتها كنت صغيرا جدا، ومازلت لليوم مستمرا بامتهانها لأكثر من أربعين سنة، فالقيشاني الدمشقي يعبر عن الهوية السورية، ومن ينظر إلى قطعه يعرف أن الإنتاج هو سوري، فالأتربة المستعملة في صناعته هي متوافرة في الريف الدمشقي، وصحيح أن من نوعية الأتربة نفسها موجودة في العالم إلا أن السر يكمن في مزج الأتربة، فالعجينة التي يُصنع القيشاني منها هي من الصلصال النقي الأبيض، والتي تختلف سماكتها حسب القيشاني المطلوب صنعه، فمثلاً هناك من الزبائن من يطلبه على شكل أواني الطعام ومنهم من يطلبه على شكل إطارات مرايا أو لوحات، وهناك من يفضله «بلاطا» لأرضية محددة في المنازل أو لتزيين الفسح السماوية في المنازل القديمة، أما بالنسبة للزخارف التي يتم رسمها على القطع فهي تختلف حسب ما هو مطلوب صنعه من الأنواع المذكورة أعلاه، مراحل القيشاني الدمشقي ليست بسهلة، ففي البداية نقوم بصنع القالب، وبعد تقدير السماكة، ندخل القالب في فرن حراري ليتم حرقه، ومن ثم نقوم بالرسم عليه بالألوان المخصصة للمادة، وبالطبع أغلب الألوان هي من درجات الأزرق الفيروزي، لكن هذه ليست بقاعدة لأنه يمكن استخدام الألوان حسب طلب الزبون، وبعدها مرة أخرى توضع القطعة المصممة في الفرن بدرجات حرارة عالية جداً كي يكتسب القيشاني الطبقة الزجاجية التي يتميز بها، وبسبب الظروف الحالية تمكنت من الاستغناء عن الفرن الحراري، وعن درجات حرارته المرتفعة لأنني استطعت العمل بدرجات باردة، الأمر الذي مكنني من الاستغناء عن الكهرباء، كما تمكنت من عمل القيشاني ولكن على الخشب، مع استخدام الخزف والألوان نفسها التي نستخدمها عادة، وطبعا لاقى هذا الإنتاج الإقبال من الناس، أنا ممتهن هذه الحرفة لأنني أحبها، وهي ليست كمورد عيش، فأنا لست بتاجر رغم أنني الوحيد عالمياً ورغم أن أعمالي منتشرة في كل البلدان، وهمي الوحيد أن أستمر بالعمل على تقديم القيشاني الدمشقي، ولكن وللأسف الشديد الظروف الحالية في سورية، أثرت سلبا في هذه الحرفة، فمعملي دُمر وموادي الأولية في مكان لا أستطيع الوصول إليه».

جديد التراث السوري…
الرسم على القش
صحيح أن هناك «الجديد» ولكن المهم أن يكون هذا «الجديد» منبثقاً من الطبيعة، بحيث لا يكون نافرا ولا مختلفا، وبالنتيجة يكون مقبولا، هذا كان هدف الفنان التشكيلي «علي عجيب» الذي ابتكر حرفة جديدة، تمّ ضمها إلى التراث السوري، لأنّها بسيطة بعناصرها وموادها، وبإمكان كل من يرغب أن يتعلمها سواء أكان صغيرا أم كبيراً، علي عجيب «أنا بالأصل رسام تشكيلي ولكن الرسم التشكيلي على القش هو فن جديد، وهذا النوع من الفن يمكنني القول إنني أنا اخترعته أو طورته، ورغم أنه جديد أخذ الطابع التراثي وتم ضمه إلى التراث السوري لأن فكرته انطلقت من الطبيعة، عن طريق الاستفادة مما تقدمه لنا سواء من قش وبذور ثمار الأشجار وحتى من أوراق الأشجار أو عروقها، كما يمكننا الاستفادة حتى من الأحجار والأخشاب، ومن خلال هذا الفن أقوم بتشكيل كل ما ذكرته بطريقة جميلة، للاستفادة منه في زينة المنازل أو لوحات فنية وغيرها من الأفكار المبتكرة، وبشكل خاص أنا أحببت جداً العمل بالقش فهو مادة مميزة، وخصوصاً أن لونه الذهبي متدرج، الأمر الذي يضفي على اللوحة جمالية خاصة، وبالنسبة لي هذا الفن ليس بجديد لأنني عملت قطعاً فنية عمرها أكثر من عشرين سنة، ولكنني كثّفت العمل في السنوات الأربع الأخيرة، لأنه كفن لاقى إقبالاً أكثر من السنين السابقة، وفي نظر الجمهور هناك دهشة لأن هذا الفن بنظرهم فن جديد، ولكن رغم ذلك هناك إقبال عليه وخاصة أن الجمهور كان معتاداً رؤية الموزاييك والنقوش النحاسية ومنتجات الحرير الطبيعي وحتى الرسم على الزجاج، طبعا الذي يقوم بهذه الحرفة، عليه أن يكون ملما بالرسم ولديه نظرة فنيّة تشكيلية وتطبيقية، هذا الفن غير موجود في المعاهد التعليمية ولا أحد غيري يقوم به في سورية، وعلى مستوى العالم هو قليل جدا، ولكن الرسم على القش هو شي جديد وكل من يلقى إعجابه فهو يحب الطبيعة ولديه الرغبة الدائمة بالبقاء قريبا منها لهذا يقتني قطعا منه، والاهتمام به للآن واضح ففي مهرجان أيام التراث السنوي، الذي أقيم في خان أسعد باشا في دمشق، سألني معاون وزير الثقافة هل بإمكاني تعليم هذه الحرفة للأطفال، فقلت له أنا على استعداد ولكنني أريد مكانا، كما أنني بحاجة إلى تأمين المواد الأولية».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن