قضايا وآراء

ماذا بعد استنفاد توظيف داعش والنصرة؟

| القاهرة – فارس رياض الجيرودي 

تهكم أحد الظرفاء على إعلان قيادة تنظيم جبهة النصرة الإرهابي فك الارتباط بتنظيم القاعدة، فقال إن ما حدث يبرهن مقولة منظّر الثورات العربية عزمي بشارة، الذي تنبأ بأن (مسار الصيرورة التاريخية لثورات الربيع العربي سينتهي بالمنخرطين في ثورة سورية إلى تبني الحريات والديمقراطية في نهاية المطاف)، وذلك بغض النظر عن كل ما أظهره هؤلاء من سلوكيات التطرف ورفض الآخر، وعلى الرغم مما ارتكبوه من بشاعات ومن نكوص حضاري وقيمي.
التحليل الهزلي السابق الذي لا يمكن أن ينطلي على كل ذي عقل سليم، لا يعني أن إعلان انفصال جبهة النصرة عن التنظيم العالمي للقاعدة حدث خال من الدلالات والمعاني، أو أنه أمر لا يستحق التوقف عنده، فقرار قيادة النصرة جاء بعد سنة على الأقل من المحاولات القطرية والتركية الدؤوب لإقناعها بإعلان التبرؤ من تنظيم القاعدة، فما الذي عدا مما بدا؟ ولماذا اقتنع قياديو التنظيم الإرهابي بإعلان الانفصال ولو شكلاً عن القاعدة اليوم بالذات، وذلك بعد أن رفض قائد التنظيم الجولاني ذلك في مقابلة مع الداعم الإعلامي الأول للحركة قناة الجزيرة القطرية منذ أشهر قليلة فقط.
إن قيادات تنظيمات السلفية الجهادية وعلى عكس الصورة النمطية المأخوذة عنهم، وعلى الرغم من تخلفهم العقائدي والإيديولوجي، يمتلكون حداً أدنى من النظرة الإستراتيجية لموازين القوى، وإحساساً بتبدلاتها وتحولاتها صقلته تجربتهم الطويلة في ساحات القتال، التي يناهز عمرها خمسةً وثلاثين عاماً، وذلك منذ تم اختلاقهم من المخابرات السعودية بناء على طلب أميركي لمحاربة الاتحاد السوفييتي في أفغانستان، ثم صدمتهم التاريخية عندما تم القاؤهم على قارعة الطريق بعد هزيمة الجيش الأحمر، حيث كان من المفارقات تزامن اكتمال انتصارهم مع تموضع القواعد الأميركية (الصليبية من وجهة نظرهم) في قلب جزيرة العرب أقدس البقاع الإسلامية، كواحدة من أهم تداعيات الدخول إلى عصر القطبية الأحادية، عقب الضعف فالانهيار الذي ضرب الاتحاد السوفييتي، ما نما لديهم رغبة قوية في الانتقام من المشغل الأميركي، انفجرت لاحقا في أحداث الحادي عشر من أيلول.
واسترجعت الجماعات الجهادية الوهابية تجربتها القديمة، عندما قرر الأميركي العودة لاستخدامها ضد محور المقاومة ولإسقاط قلبه سورية بدءاً من عام 2011، وذلك تحت ضغط إخفاق غزوه للعراق في إحداث دينامية تؤدي لإسقاط الدولتين السورية والإيرانية كما أحجار الدومينو (مثلما نظًر لذلك برنارد لويس)، وهذه المرة حاول الجهاديون أن يوظفوا الدعم السخي واللا محدود الذي حظوا به مجدداً من السعودية وقطر وتركيا لمصلحتهم، تماما كما يحاول داعموهم توظيفهم لخدمة استراتيجياتهم، فأعلنت تلك الجماعات عن إماراتها الخاصة في سورية، وبينما فضل بعضها التركيز على معركة الشام وتأجيل باقي خطوات مشروعه الإرهابي الذي لا يستثني بقعة في العالم، قام تنظيم داعش بالجهر بالخروج عن النص المعد له، فأعلن دولة الخلافة، التي تسقط الشرعية الدينية المزعومة عن كل حلفاء أميركا من الأنظمة الإقليمية، وبدأ بتنفيذ العمليات في أوروبا وأميركا، ما أوقع النخب الحاكمة في الغرب في حرج شديد مع شعوبها، التي قامرت بأمنها من أجل مشاريع استعمارية تعثرت ولم تكتمل.
ولم يأت التدخل العسكري الروسي المباشر في سورية دعما لجيشها في وجه الإرهاب الذي بات أكبر خطر يهدد السلم العالمي، إلا استغلالاً لتلك العثرة الغربية، وانعكاساً لتبدل موازين القوى نتيجة نجاح سورية في الصمود في وجه الحرب الإرهابية الشرسة التي شنت بهدف اجتثاث دولتها، حيث ترافق التدخل الروسي مع مد اليد للغرب للنزول من على الشجرة، وحفظ ماء الوجه عبر تغيير عنوان التدخل الأميركي في سورية، ليكون (الحرب على الإرهاب) بدلاً من عنوان (إسقاط الحكومة الديكتاتورية التي تقتل شعبها) كما تروج لذلك بروباغندا الإعلام الغربي، لكن الإدارة الأميركية عرضت تعاونا ضد داعش مع تحييد للنصرة والجماعات التي تقاتل تحت رايتها، وهو ما رفضه محور المقاومة وحليفه الروسي، لترد روسيا على العرض الأميركي بمهلة للتوصل إلى صيغة تفصل من خلالها أميركا الجماعات التي تسميها معتدلة عن مقاتلي جبهة النصرة في سورية، وإلا فستبدأ الآلة العسكرية للجيش العربي السوري وحلفائه باجتثاث الجميع وبغطاء جوي روسي، وحاولت أميركا استغلال الوقت لإيجاد قوة فاعلة موالية لها على الأرض يمكن بواسطتها إحراز إنجازات ضد تنظيم داعش، ليجري تسويقها قبيل احتدام حملة الانتخابات الرئاسية الأميركية، لكن كل هذه المحاولات ذهبت سدى، ما أدى بالتالي إلى تراجع الشروط الأميركية لانجاز التسوية مع روسيا شيئاً فشيئاً.
لذلك يمكننا أن نعتبر إقدام النصرة على القبول بما رفضت القيام به بالأمس القريب دليلاً واضحاً على تحسس قيادة ذلك التنظيم وداعميه الإقليميين لتغير موازين القوى، وذلك بعد اقتراب نهاية الموعد الذي ضربه الروس للأميركيين للانخراط في حملة مشتركة ضد جميع جماعات الإرهاب في سورية مع حفظ موقع شكلي لحلفائهم في الحكومة السورية التي ستشرف على انتخابات تمثل إخراجاً سياسياً لائقاً يسدل الستار على الأزمة السورية بشكل يحفظ ماء الوجه الأميركي.
فقيادة النصرة أدركت أن التوظيف الأميركي لها انتهى أو شارف على النهاية، لذلك سارعت لمحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه بإعلان انفكاكها عن التنظيم الدولي للقاعدة، وهو إعلان متأخر لن يكون له أي أثر جدي على ساحة الصراع، خصوصاً بعد انكفاء تركيا السند اللوجستي الرئيسي لتلك الجماعة على نفسها عقب انفجار الصراع الداخلي فيها، إثر السقوط المدوي لمشروع الإمبراطورية التركية بصيغتها العثمانية الجديدة، الذي قام على أساسه التساكن بين إسلاميي تركيا وعسكرييها ذوي الميول العلمانية، فالانقلاب الأخير في تركيا ليس سوى أولى النتائج المباشرة لإخفاق مشروع إسقاط الدولة السورية اعتماداً على الجماعات السلفية المسلحة، على حين فضل الداعم الإقليمي الكبير الثاني لتلك الجماعات الإرهابية (السعودية) الذهاب إلى علاقات تحالف علنية مع إسرائيل كمحاولة لتلافي دفع ثمن هزيمته في معركة سورية، وأصبح أقصى طموح لأميركا التي تولت إدارة الحرب على سورية، هو إقامة شريط عازل في الجنوب من فلول التنظيمات المسلحة مهمته حماية أمن إسرائيل في وجه مخطط المقاومة الذي يجري الإعداد له في الجولان.
من هنا نفهم توجه الأمين العام لحزب اللـه في خطابه الأخير بكلام مباشر نحو النظام السعودي، يحمل عرضا يحفظ للسعودية مكانة في المنطقة تناسب حجمها الحقيقي، وذلك شرط انخراطها في التسوية القادمة، بدلا من رفض الاعتراف بالهزيمة والذهاب لتطبيع علني مع إسرائيل، فالسعودية هي من وضع نفسه في طريق محور المقاومة وليس العكس، وتاريخ المنطقة يعلمنا بأن كل من جاهر بعلاقات تحالف علنية مع إسرائيل يسقط ولو لاحقا، والأميركي الذي يرفع الغطاء اليوم عن داعش والنصرة قد لا يتردد غداً في رفعه عن آل سعود في حال اقتضت ديناميكية الصراع في المنطقة ذلك.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن