قضايا وآراء

على وقع لقاء القيصر بأردوغان

| عبد المنعم علي عيسى

على غير ما يقتضيه البروتوكول الرسمي لم يترك الرئيسي الروسي كرسيه في تلك القاعة الفارهة من قاعات قصر قسطنطين في مدينة سان بطرسبورغ ليقوم بواجب استقبال نظيره التركي على الباب على الرغم من أن هذا الأخير لم يترك وسيلة ناجعة من شأنها أن تؤدي إلى تلطيف الأجواء إلا واتبعها، ففي المقابلة التي أجرتها معه وكالة تاس الرسمية عشية سفره للقاء بوتين 9/8/2016 عمد إلى توصيف هذا الأخير بـ«الصديق» كل أربع دقائق في مقابلة مطولة استمرت أكثر من مئة دقيقة، أيضاً لم يمنع الاستقبال الفاتر الذي قوبل به من أن يتابع ما كان قد بدأه سابقاً، فقد استطاع مصور روسي التقاط صورة لأردوغان وهو يهمّ بمصافحة بوتين مع انحناءة كانت غير عادية، وما كان لافتاً أن وسائل الإعلام الروسية كانت تتعاطى مع تلك السلوكيات كما لو أنها تتلذذ بها أو أنها تشعر الشارع الروسي بأن الخصم أخيراً قد جاء صاغراً ومدركاً لحقيقة مهمة هي أن «الزعل» الروسي ذو أكلاف باهظة يصعب التهرب منها.
استبقت لقاء الرئيسين الروسي والتركي- وفي الأمر ما يدعو إليه- توقعات ذات سقوف منخفضة فيما يخص انعكاسات ذلك اللقاء على الأزمة السورية من دون أن يعني ذلك انتفاء الآمال تماماً بإمكان أن يسهم في توفير مناخات إيجابية من شأنها المساعدة في وضع عربة التسوية السورية على الطريق الصحيح، وفي محاولة استقراء هذا الأمر الأخير يمكن لنا القول إن قمة سان بطرسبورغ كانت قد انعقدت ولدى كل من طرفيها طلبان اثنان لدى الطرف الآخر، فروسيا تريد من تركيا التخلي عن كل ما من شأنه أن يؤدي إلى إسقاط النظام السوري، وتريد أيضاً إيقاف دعمها للمقاتلين الشيشان والقوقاز الموجودين على أرضها والذين ترى فيهم موسكو تهديداً مباشراً لأمنها القومي، أما تركيا فتريد من روسيا التخلي عن دعمها للأكراد السوريين وكل ما من شأنه أن يؤدي إلى قيام كيان سياسي كردي مستقل في الشمال الشرقي من سورية (كان لافتاً أن موسكو قد أعلنت بعد 48 ساعة من القمة عن إغلاق ممثلية الـPYD فيها)، وتريد أيضاً رفع جميع العقوبات الروسية التي فرضت عليها في أعقاب إسقاط الطائرة الروسية 24/11/2015 (كان لافتاً أيضاً أن أردوغان قد ذهب في مقابلته المشار إليها مع وكالة تاس إلى الاعتراف بأن الطائرة الروسية قد أسقطت فوق الأجواء السورية) وعليه قد تبدو أي مقايضات مفترضة أكثر من واقعية بل تمثل حلولاً سحرية لكل من الطرفين إلا أن الأمر بالتأكيد ليس بهذه البساطة، فأردوغان المندفع باتجاه موسكو بدوافع عديدة كان غير المحتمل منها يتمثل في تعامل الغرب المهين له والذي وصل إلى حدود التقريع بعد أن تجاوز مراحل الاتهام بالقمع والاستبداد، أردوغان هذا يدرك أن مستلزمات القيام باستدارة تامة في علاقته بالغرب غير متوافرة عدا أنها هي الأخرى ذات أكلاف باهظة من الصعب على تركيا تحمل تبعاتها الآن، ولربما كان هذا الأمر الأخير يغوص عميقاً في النفس الروسية التي كان من المؤكد أنها تضع في حساباتها أن الاندفاعة التركية قد تقتصر أغراضها على عملية ابتزاز تمارسها أنقرة تجاه الغرب أو إثارة غيرة هذا الأخير بالدرجة القصوى (وجه أردوغان في مقابلته مع تاس تحذيراً للأوروبيين تضمن تمديد مهلة تنفيذ اتفاق اللاجئين حتى منتصف تشرين الأول المقبل وإلا فإنه سيعتبره لاغياً وهو تحذير لم يكن ممكناً لولا أن أردوغان كان في تلك اللحظات قد أدرك أنه مستند إلى الظهير الروسي)، ولربما تفسر تلك المخاوف الروسية سياسة البطء التي تعتمدها موسكو في تنفيذ وعود التطبيع الاقتصادية التي كانت قد بدأت مع رسالة الاعتذار التركية في حزيران الماضي، إلا أن ما تمّ تنفيذه منها لم يتعدَّ إرسال أفواج السياح الروس الذين توافدوا إلى تركيا بعد قطيعة دامت أكثر من ثمانية أشهر.
تؤكد التصريحات التي أطلقها الرئيسان في مؤتمرهما الصحفي 10/8/2016 أن المصالحة التركية الروسية قد حدثت وأن هناك قراراً لدى الطرفين بعدم الرجوع إلى الوراء في ذلك المسار، على حين أن التصريح الذي أطلقه وزير الخارجية التركي في أعقاب محادثاته مع نظيره الإيراني في أنقرة 12/8/2016 والذي طالب فيه موسكو بمشاركة أنقرة في توجيه ضربات لداعش لمنعها من التمدد في سورية يرسم حدود الانعطافة التركية تجاه دمشق، فالتصريح يشير إلى أن أنقرة باتت ترى أن أولى الأولويات هي في مكافحة الإرهاب قبل أي شيء آخر ولربما كانت تلك الانعطافة هي التي دفعت لانعقاد اجتماعات الآلية الثلاثية (روسيا- تركيا- إيران) يوم الخميس الماضي 11/8/2016 والتي قالت مصادر روسية وأخرى تركية إنها فُعّلت لمناقشة مسألة الرئاسة السورية التي تعتبر النقطة الأكثر تفجراً في أي تسوية سياسية مفترضة.
من الراجح الآن أن التفاهمات التركية الروسية سوف تعزز السير نحو المزيد من المحطات وقد يكون لهذا الأمر انعكاسات إيجابية على الأزمة السورية إلا أن تلك التفاهمات تبقى ناقصة ما دامت تتم بين دولة كبرى وأخرى صغرى إذا لم تترافق مع تفاهمات بين الدول الكبرى، وبمعنى أدق بين الروس والأميركان، تحديداً في ردود الأفعال على التقارب الروسي التركي حيث بدا الموقف الأميركي غامضاً في وقت يتراكم فيه المزيد من «المنغصات» على طريق أنقرة- واشنطن والتي كان آخرها إعلان جيش الفتح المدعوم تركياً أن معاركه لا تستهدف الجيش السوري فحسب وإنما تستهدف بالدرجة نفسها قوات سورية الديمقراطية الحليفة لأميركا، في حين اتسمت ردود الفعل الخليجية بالفتور إذ لطالما جاء التقارب الروسي التركي في توقيت هو الأصعب للرياض وفيه تبدو الأزمة اليمنية قد أفلتت من التفرّد السعودي بل دخلت في مسار مختلف يبدو بلا أفق مع إعلان المبعوث الأممي إسماعيل ولد الشيخ في 6/8/2016 عن تعليق المفاوضات اليمنية- اليمنية في الكويت إلى أجل غير مسمى، إلا أن الجديد في الأمر هنا كان في انتقال الدور الروسي من الحيادية إلى التعطيل إذ لطالما كان الدور الذي تمارسه موسكو في السابق فيما يخص الأزمة اليمنية يقوم على الامتناع عن التصويت تجاه أي مشروع قرار يعرض على مجلس الأمن ويخص اليمن، إلا أنها «موسكو» وقفت مؤخراً في 3/8/2016 بوجه قرار يلزم الحوثيين بالتعاون مع المبعوث الأممي ويدعوهم إلى الانسحاب من صنعاء وتعز والحديدة، وهو ما ترددت أصداؤه سريعاً سواء أكان في تعليق المفاوضات اليمنية أم في دعوة مفتي السعودية عبد العزيز بن عبد الله 5/8/2016 السعوديين للتبرع للجيش السعودي الذي يحارب في الجنوب في مؤشر يؤكد إدراك الرياض أن الأزمة اليمنية باتت بلا أفق وهي مرشحة لأن تطول وتطول، ما من شأنه أن يرهق الخزينة السعودية المرهقة أصلاً والتي تبدو أقرب ما تكون لظاهرة الجيوب المثقوبة التي لا تصلح لحفظ المال.
وعلى وقع قمة سان بطرسبورغ كانت التحضيرات لمنازلة حلب الكبرى تجري على قدم وساق وكثير من المؤشرات يوحي بأن الجيش السوري عازم على الرغم من ضيق الوقت على أن يضع بين يدي المفاوض السوري قبيل أن يتوجه إلى جنيف ورقة حلب الثمينة وهو يدرك بالتأكيد صعوبة مهمته التي يضطلع بها، فحروب المدن غالباً ما تترافق بضجيج إعلامي صاخب من شأنه أن يشكل عامل ضغط كبيراً على طبيعة ومسار تلك الحروب ناهيك عن أنها تعرف ببالوعة الجيوش والتي غالباً ما تكون مجرياتها غير معبرة بالضرورة عن ميزان القوى العسكري القائم إذ إنه يمكن لعدة فصائل صغيرة عددها بالعشرات أن تخوض حروب استنزاف طويلة ضد أعتى الجيوش ما دامت تلوذ بالأحياء السكنية وخصوصاً أن حالات الالتحام التي تميز تلك الحروب تفرض تحييد سلاح الجو وانعدام دوره تماماً، وعلى الرغم من ذلك فإن معركة حلب ماضية في طريقها وصهيل الخيول بات على مرمى الآذان بينما الجميع قد عمد على ضمّ أوراقه التي يمتلكها إلى صدره بانتظار أن يفضي الميدان إلى معطيات أخرى.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن