قضايا وآراء

حلب: النموذج- الفكرة

| عبد المنعم علي عيسى 

كان لافتاً أن جلسة مجلس الوزراء التي انعقدت يوم الثلاثاء 9/8/2016 كانت مخصصة- في معظمها- لدعم صمود حلب وتوفير مقومات ذلك الصمود كما أكدت القرارات الصادرة عنها «تأمين مستلزمات دعم الإنتاج في المنطقة الصناعية بحلب» ولربما يبدو هذا الأمر لدى البعض في غير محلّه أقلّه في التوقيت، فما ينتظر حلب هو معركة كبرى لا أحد يعلم إلى أين يمكن أن يصل شرارها أو لهيبها، وما من شك بأن هذه التقديرات هي صحيحة إلا أن ذلك كله لا يخفف من صوابية التوجه الجديد الذي اتخذته الحكومة السورية تجاه حلب.
يمتد تاريخ حلب إلى سبعة آلاف عام لم تنقطع فيها سبل الحياة وما يخدم فكرتنا هنا هو تاريخها الحديث الذي يمتد إلى ما يزيد قليلاً على القرن فقد دخلت (حلب) القرن العشرين وهي ترزح تحت نير الاحتلال العثماني الذي عمل على مصادرة أصحاب المهن والمهرة منها وإرسالهم إلى استنابول أسوة بجميع المدن التي كانت تقع تحت سيطرة هذا الأخير وعندما استقلت سورية كانت حلب ضمن المملكة السورية التي أقامها الملك فيصل 1918-1920 ثم دخلت من جديد تحت سلطات الانتداب الفرنسية 1920-1945 حيث ستشهد هذه المرحلة الأخيرة حدثين مهمين: الأول هو إعلان كمال أتاتورك عن انتهاء دولة الخلافة الإسلامية 1923 الأمر الذي أدى إلى تقارب تركي- أوروبي وتركي- فرنسي على وجه الخصوص وقد نجحت أنقرة في استغلال ذلك التقارب لسلخ لواء إسكندرون عن الجسد السوري 1939 على الرغم من أن هذا الأمر الأخير يعتبر نسفاً لكل الأعراف والمواثيق التي قامت عليها عصبة الأمم المتحدة التي منحت فرنسا صكوك الانتداب على سورية، فقد كانت تلك المواثيق تؤكد وجوب أن تعمل الدولة المنتدبة على حفظ الجغرافيا للدولة المنتدبة عليها ولربما من الممكن أن يشكل هذا الأمر يوماً مدخلاً لاستعادة اللواء السليب في ظروف دولية وإقليمية مغايرة بالتأكيد، والثاني مطالبة تركيا بكل من حلب والموصل في محاولة لضمهما، أما لماذا حلب والموصل فالأمر عائد إلى فهم الأتراك لتكامل دور المدينتين الاقتصادي مع بعضهما بعضاً على مر المراحل والعصور.
استطاعت الطبقة البرجوازية الصاعدة في حلب أن تدير وتمول عمليات إنتاج وتسويق محصولين استراتيجيين وتحقق فيهما اكتفاء ذاتياً للبلاد هما القمح والقطن لتتوسع التجربة وتحقق فائضاً في الإنتاج عملت الإقطاعية الحلبية التي كانت قد وصلت هي الأخرى إلى ريف الموصل وباتت تضع يدها على فائض الإنتاج الزراعي في هذه الأخيرة لتقوم بتسويقه- هو والفائض السوري- إلى حلب ومن ثم إلى الخارج عبر ميناء اللاذقية على البحر المتوسط.
ما بعد الاستقلال دخلت البرجوازية الحلبية عصر النهضة الصناعية على امتداد الأعوام من 1950-1958 قبل أن تأتيها قرارات التأميم ما أدى إلى كبح جماح اندفاعتها الأمر الذي يفسر وقوف تلك الطبقة إلى جانب الانقلابيين الذين نجحوا في فصل سورية عن مصر 28 أيلول 1961 ونحن هنا لن ندخل في تقييم التجربة أو الحكم عليها فالجدل الواسع حولها لا يزال قائماً ولم يحسم بعد وقد يطول الوقت قبل أن تصدر تلك التقييمات أو الأحكام، إلا أنه من الممكن أن نقول إن حلب قد شهدت ما بعد الانفصال وحتى عام 2010 نهضة كبرى على مختلف الصعد والمستويات لم تحققها أي مدينة أخرى على مستوى المنطقة.
حلب اليوم في وضع صعب لم تشهده حتى أيام انهيار الدولة الحمدانية (980م) ولا حتى أيام اجتياح هولاكو لها (1259م) فصوت الرصاص يعلو فوق كل صوت ومنطق الركام والأنقاض يهدد بجعل الحضارة الحلبية العريقة برمتها تعيش وفق محدّدات هذا المنطق الأخير.
حضارة حلب ليست في أبنيتها الشاهقة ولا في شققها الفارهة في حي الراشدين أو تلك العريقة في حي السبيل ولا في زخم أسواقها الكبرى القادرة على ممارسة دور المدير الإقليمي بل لا حتى في معاملها العملاقة التي قيل إن بناها التحتية قد تم تفكيكها ونقلها إلى تركيا.
حضارة حلب هي في (النموذج- الفكرة) الموجودة في ذهنية التركيبة الاقتصادية- الاجتماعية التي استطاعت النهوض واجتراح الحلول لكل الأزمات التي تعترض مسار هذا الأخير وفق ما تتجه الإمكانات والقدرات… والقوانين.
شكل نسيج الأفكار والاقتصاد والثقافة مهداً سحرياً لنمو وتطور تلك الثنائية (النموذج- الفكرة) وهو اليوم يمثل الضمانة اللازمة والكافية لاستنساخ تجارب النهوض من جديد مهما علت طبقات الركام وما إن ترتفع هذه الأخيرة عن الأرض حتى تبدأ النويات المسؤولة عن قضايا النمو والتطور والنهوض بتحويل الخرائط التي تختزنها الأذهان إلى وقائع على الأرض.
قد يقول قائلون هنا إن جزءاً كبيراً من ذلك النسيج (وتلك النويات) قد غادر حلب إلى مدن أخرى بل إلى بلاد أخرى أيضاً، وهناك استطاع المغادرون القيام بتجارب «حلبية» نجحت في معظمها ما يمكن أن يغري بالبقاء وتطوير التجربة في أماكنها الجديدة، القول السابق في شقه الأول صحيح إلا أنه ليس كذلك في شقه الأخير فالنجاحات التي حققها الحلبيون في الخارج هي نجاحات مؤقتة (والمؤقتة هنا لا يقصد بها زمن محدد إنما بمعنى أنها لا تملك مقومات الديمومة) وهي متفردة ايضاً وبالتالي فإن تجارب المحيط بها لا تعمل على مؤازرتها بحكم الاختلاف الكبير فيما بين التجربتين وهو ما يدركه الحلبيون قبل أي أحد غيرهم ويدركون أيضاً أن ما يؤمن لوازم الاستمرار هو مركزية حلب التي فرضتها الجغرافيا التي أعطت لهضبة حلب دور الرابط التجاري الأمثل بين هضبتي الأناضول والهضبة الفارسية وما يؤمن لوازم الاستمرار أيضاً هو ذلك التراث المهني الحلبي الذي استطاع الحلبيون عبره تأصيل وتعميم التجارب لتكون بمنزلة شريعة اقتصادية- اجتماعية للحالة الراهنة وكذلك اللاحقة أيضاً، وفي هذا السياق فإن تجارب الحلبيين في الخارج مهما حققت من نجاحات فهي أشبه بحالات «الواحات» التي لا تملك القدرة على التمدد أو التوسع لسبب أساسي هو أن المحيط ستكون له تداعيات خطرة على الداخل بحكم الاختلاف في الطبيعة والتركيب فيما بين الاثنين.
خيار حلب هو أن تنهض من جديد وخيار الحلبيين هو العودة إلى حلب للمشاركة في تلك النهضة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن