ثقافة وفن

لا أسمع إلا فيروز… واعتبر فيروز رمزاً للغناء العربي … رفيق سبيعي لـ «الوطن»: أراد أهلي أن أكون خياطاً… لكنني لم أستطع إلا أن أكون فناناً

| سوسن صيداوي- «تصوير: طارق السعدوني»

سحر دمشقي نادراً ما يتكرر، لفح بعبقه الياسمينيّ الندي، روح شخص ارتقى بفكره وعواطفه ومواقفه إلى رتبة إنسان، بقي مرافقاً لهاجس، تبعه الأخير كظله، مستحوذا عليه منذ الطفولة بسحر الاندفاع والرغبة القصوى إلى أبعد الحدود، هذا الهاجس أسره وتمكّن منه لدرجة أنه، لا يمكن طواعية، أن يتحرر منه.
رغم كل ما واجهه من صعوبات وعقبات ومطبات، كان هذا الهاجس أقوى، وعشق العاطفة المأخوذ بها، استطاع قلب الموازين إلى مصلحته، لأنه لم يعرف التخاذل، مكرساً هاجسه كأسلوب لحياة أبى أن يعيش غيرها، مع وجود عناصر وإمكانيّات اتبعها، فالالتزام والصبر سندان ثابتان، والمفاضلة بين ما هو متاح وما هو واجب الانتقاء، كانا عنصرين أساسيين لتأكيد أن الهاجس الذي نتكلم عنه…. محق.
رفيق سبيعي.. أبو صياح.. فنان الشعب… استحق اللقب بالجدارة القصوى، لأنه ببساطة يعتبر نفسه قادماً من بساطة الناس وعائداً إلى الناس أنفسهم بانتمائه، فهو ليس بغريب عن العادات والتقاليد، وهو معنيّ بهموم الناس وأحوالهم وقضاياهم، يعرف ما يستهويهم وكيف يفكرون وماذا يريدون، لهذا اختار نفسه ناقداً لما يقدمه لهم من أغان متفاوتة بين الطقطوطة والطرب، متفرداً ببصمة سهلة بسيطة لكنها في اللّب جداً عميقة، بين المسرح، السينما، الدراما، الإذاعة، المونولوج، هناك التعدد والتميز ولكن ما هو جامع لهذا التنوع هو أمر واحد.. أصالة المضمون.
صحيفة «الوطن» التقت رفيق سبيعي وإليكم الجزء الأول:

أنت من مواليد 1930 من منطقة البزورية، أنت من الأشخاص الذين يتأثرون ببيئتهم ويحافظون على هذا التأثر؟
صحيح.. تأثري بالبيئة الشامية واضح من خلال شخصية أبو صياح، فعندما أمثل هذه الشخصية لا أشعر أنني أمثل، فهي من نفسي ومن بيئتي التي تربيت فيها، وكل الذين كانوا حولي هم يمثلون شخصية أبو صياح، ومنطقة البزورية هي منطقة تجارية وعريقة، وأنها من عمق الشام وطبعا قصر العظم بقربها وأيضاً منطقة الشاغور، يعني هي قريبة من كل الأماكن التي تُظهر عراقة الشام وأنا كنت أسكن فيها وهذا بطبيعة الحال دفعني للتأثر بهذه الشخصية.

الحس الفني الذي تمتعت به هل ورثته من أحد أفراد العائلة؟
أبداً… بالعكس كان أفراد عائلتي يحاولون دائماً إبعادي عن الفن واستخدموا الكثير من الوسائل كي أمتنع أو أغير رأيي برغبتي في احتراف الفن وأن تكون مهنتي في حياتي هي الفن، وأنا كنت مُصرا على المسار الذي قررته لنفسي، وفي الحقيقة منذ الصغر أنا لم أحب إلا الفن بأنواعه، ولم تغب لحظة عن تفكيري، فكرت بأنني عندما أكبر أريد أن أكون فناناً، على الرغم من كل الضغوطات التي عانيتها من الأهل، لم تنلْ من توقي لهذه الفكرة، ورغم محالات أبي الدؤوبة إلا أن إصراري لم يحبط أو يضعف.

كيف كانت أشكال هذه الضغوطات التي عانيتها؟
في صغري وبسبب عشقي للفن وإصراري الكبير في الاعتماد على نفسي بأنني سأكون فنانا، الأمر كان يدفعني بروح طفولية تهوى اللعب والاستكشاف، إلى البحث عن المناسبات الفنية وحتى الأعراس والمناسبات العائلية في الحارات المجاورة، ما كان يؤخرني أغلب الأحيان في العودة إلى المنزل وحتى السهر لوقت متأخر، بالنتيجة كان هذا سبباً كي يعنفني أبي، وفي تلك الفترة ظنّ أبي أن إلحاقي ببعض محلات المهن أو الصناعات التقليدية ربما سيلهيني عما أنا كنت عازما عليه.

ما الصناعات والمهن التي حاولوا أن يلزموك بتعلمها؟
حاول أبي وأمي تشجيعي بأن أكون خياطاً، لكنني لم أحب هذه المهنة ولم أستطع الاستمرار، لأن هاجسي بأن أكون فناناً لم يغب عن فكري أو قلبي.

تحدث لنا عن اهتمامك بالموسيقا في تلك الفترة وما الآلة التي عزفت عليها؟
الاهتمام بالموسيقا والغناء كان منذ الطفولة لأنني عندما كنت أذهب إلى المناسبات والأعراس كان غرضي أن أرى من يغني وأحاول أن أغني بين الناس، ولكن بالنسبة للعزف، لم أعزف في هذه الفترة من عمري ولكنني حاولت في فترة لاحقة العزف على آلة العود التي أصبحت في هذا الوقت رفيقاً لي في منزلي، وذلك من خلال تفسير النغمات التي ترافقني أثناء الغناء، في النهاية لم أحترف العزف على العود ولم أكمل مسيرتي بالعزف عليه وذلك لضيق الوقت الذي كنت أخصصه للتمثيل.

بما أننا نتكلم عن الموسيقا والغناء، كنت متابعا للمونولوج الذي قدمه سلامة الأغواني؟
صحيح… كنت أتابع سلامة الأغواني وأسمع ما كان يقدمه، ولكنني لم أتأثر به، بل كان لي بصمتي وشخصيتي الخاصة والواضحة، وحتى إنني لم أغنِ بالطريقة التي كان يغني بها، وما أقدمه أنا كان مميزاً بأسلوبه الأقرب إلى الطرب.

وحتى الأغاني التي قدمتها كانت ناقدة؟
نعم… فأنا معتاد دائماً أن أقدم أغاني بطبيعتها ليست مجانية أو فارغة المضمون، بل إنها تحمل نقداً سواء أكان النقد اجتماعياً أم سياسياً.
بالنسبة للمسرح… هل من نفسك توجهت إليه أم رافقك بهذا العشق رفيق بالحارة أو صديق؟
في الحارة لم يكن لدي أصدقاء يهتمون بالفن، لأن حارتي « البزورية»، وكما هو معروف، تجارية بطبيعتها، ومن الصبية الذين يحيطون بي فيها، كنت وحيدا مهتما بالفن، ولكن عندما أصبحت شاباً وواعياً التحقت بالنوادي التي يهتمون فيها بالأمور الفنية ومن خلالها قدمت تجارب ساعدتني في فترة لاحقة في مشواري الفني المتنوع.

ومن خلال هذه النوادي كانت البداية بأنك كنت تقدم لوحات كوميدية؟
نعم.. لقد خدمتني هذه النوادي على الرغم من الإمكانات البسيطة والمتاحة سواء المعرفية أو التمثيلية، فمن خلال مشاهد تمثيلية بسيطة وضاحكة كنا نحاول أن نثبت أنفسنا كممثلين وفي الوقت نفسه من خلالها كنا نسعى إلى إدخال الفرح والسرور إلى قلوب الناس، والتجاوب الذي كنت أتلقاه من الجمهور هو ما دفعني وشجعني أن أستمر بهذا المجال.

ثم بعدها صقلت موهبتك بوجود عبد اللطيف فتحي وفرقة علي العريس؟
في ذلك الوقت لم يكن هناك معاهد لتعليم التمثيل لهذا كنا نستغل وجودنا في الفرق الاستعراضية التي كانت تعمل بفرق المحترفين مثل فرق علي العريس، وعندما كانت تأتي إلى البلد كنا نلتحق بها ونستفيد من التجارب التي قدمناها، وبالنسبة لي شخصياً أنا استفدت من هذه الفرقة كثيراً لأنها استعراضية ففيها تمثيل وغناء ورقص، فهذا ما ساعدني أكثر في صقل موهبتي، ودفعني إلى الالتحاق ومتابعة العديد من الفرق الفنية الاستعراضية، وليس على سبيل الحصر مع فرقة علي العريس، فهذه الفرق كانت المعاهد التي علّمتنا وعمّقت معرفتنا من خلال التجارب بما هو فن أو استعراض.

من بعدها أسستم المسرح الحر؟
هنا بدأنا بمرحلة الاحتراف وفصلنا العملية عن الاستعراض وأصبحنا نعمل في مجال التمثيل فقط، فأنشأنا مع الزملاء فرقة اسمها «فرقة المسرح الحر» إضافة إلى فرق أخرى، وكل الشباب الذين كانوا يحبّون التمثيل انضموا إلى هذه الفرق التي تعمل في التمثيل، والحمد اللـه استطعنا أن نبني قواعد للمسرح بشكل عام، وهنا في هذه الفترة بدأنا نبرز ونصبح معروفين ومشهورين من الجمهور، وتمكنا نحن والفنانون الذين كانوا هواة إضافة للفنانين المحترفين، من أن نشكل بصمة في المسرح ونثبت لأنفسنا أولا أن هذا الاندفاع الذي نشعر به، يؤكد أن هناك مستقبلاً مهماً بانتظارنا وبأن هناك من سيحمل الرسالة من بعدنا.

هل تذكر لنا بعضاً من أسماء هؤلاء الفنانين والهواة الذين كانوا معك في المسرح الحر؟
كان معنا نزار فؤاد، ومحمد العقاد، إضافة إلى رضوان الساطي، ومجموعة كبيرة من الشبان الذين كانوا موظفين في أماكن أخرى، ولم يكونوا قادرين على الاستغناء عن وظائفهم والاكتفاء بالفن، لهذا اعتبروا المسرح هواية فقط، بمشاركتهم معنا بالفرق، وكان موقفهم على هذا الشكل، ولا يمكن لنا أن نلومهم، وخاصة لأن الفن لم يكن يطعم خبزا أو يؤمن معيشة، فكان من الصعب عليهم المغامرة بوظائفهم.

في عام 1960 أسستم المسرح القومي وكان فيه زخم كبير في عدد العروض المقدمة، وكان يُقدم وقتها وخلال العام عرضاً أو أكثر، ولكن بعد عام 1964 انقطعت عن المسرح حتى عام 1996، فكيف استطعت الابتعاد عن المسرح وهو رفيق بداياتك؟
عملية الغناء والمونولوج أخذت من وقتي الكثير وكان من الصعب عليّ متابعة المسرح وغناء المونولوج في الوقت نفسه، لذلك قررت التفرغ لفترة معينة للمونولوج، ولكن بالنسبة للفترة التي كانت قبلها عندما كنت بالمسرح القومي، حينها شاركت بمسرحيات عالمية واستطعت أن أجد لنفسي مكاناً من خلال ما قدمته أنا وزملائي من مجموع المسرحيات المقدمة التي كانت على مستوى عال جداً.

إذاً وقوفك على المسرح لغناء المونولوج عوّضك عن المسرح كخشبة تمثيل؟
صحيح.. والمسرح سواء كان غنائياً أو تمثيلياً أو استعراضياً جامعاً بينهما.. هو مسرح، لأن من خلاله نلمس تشجيع الجمهور ونرى نتيجة العمل مباشرة، وفي غنائي المونولوج كان لي هناك تشجيع كبير سواء من الجمهور الذي يتابعني أو من المهتمين من المسؤولين، وخاصة في شخصية أبو صياح، وهي التي دفعتني إلى أن أحوّل شخصية أبو صياح إلى شخصية ناقدة ومن هنا صرت أقدم مونولوجاً ناقداً وجدت نفسي به من ناحية الغناء.

إلى أي مدى برأيك المسرح مهم للممثل؟
المسرح هو بيت الممثل، والإنسان بلا بيت لا يمكنه العيش، وعندما يوجد المسرح، فهذا دلالة قوية على أن الفنان بأمان وسيكون بخير، وبالنسبة لنا نحن استمررنا بتقديم عروض مسرحية حتى تأسست وزارة الثقافة، وأصبح هناك مسرح قومي، وأصبح المسرح موظفاً في الدولة، وهذا أمر إيجابي لأنه يدل على أن الدولة تعترف بالمسرح، وبالتالي الدولة تعترف بالفن، وقبل تأسيس وزارة الثقافة كنا قلقين، ولكن بعدها قامت مديرة الفنون بضم كل أنواع الفن والمسارح ما جعلنا نشعر بالانتماء وبأن الدولة مسؤولة تُجاه فنانيها.

ما رأيك بالمسرح السوري في الوقت الحالي هل فيه تراجع؟
نعم… وللأسف الشديد يعاني المسرح في الوقت الحالي من تراجع كبير، فالمسرح القومي لم يعد يقوم بواجبه سواء من خلال عدد العروض المقدمة أو حتى النصوص التي تقدم أو من خلال مساعدة الممثلين وتشجيعهم على الالتحاق بخشبته، هذا أمر لم نشهده نحن.

أخبرنا كيف كانت الحال في وقتها بالنسبة لكم؟
بالعموم كانت حياتنا للفن ولا شيء يعيقنا أو يبعدنا عن المسرح القومي ولو كان لدينا التزامات أخرى، فمثلا بالنسبة لي، عندما يكون لدي عرض مسرحي في المسرح القومي كنت أنظم وقتي، لأنه يتصادف أن يكون لدي عدة عروض سواء عرض مسرحي أو عرض غنائي إضافة إلى عمل في الإذاعة، ولكن رغم تقارب الأوقات وخصوصاً بين المسرح القومي أو العرض الغنائي واللذين كانا يقدمان في الليل، إلا أنه لم يكن أمراً صعباً أن أوفق بينهما، وذات مرة كان الأمين أو ما يسمى اليوم معاون وزير الثقافة في حفلة لي بمناسبة وكنت دُعيت للغناء فيها، وطبعا استغرب معاون الوزير من وجودي على المسرح أغني، وأخذ يلوح لي بالإشارات بما يعني « ماذا تفعل هنا في هذا الوقت »، واستغرب من وجودي في العرض لأن لديّ عرضاً مسرحياً على خشبة المسرح القومي، على حين أنا كنت مرتاحاً لأنني كنت منسٍّقا وقتي بين الحفلة والعرض المسرحي، وأظن هذا كله كان نتيجة عشقي للفن ولأنني كنت أعطيه الكثير من وقتي واهتمامي.

من بين مشوارك الفني الطويل وبشكل خاص في السينما.. أحببت أن أتوقف عند فيلم «سفر برلك» مع السيدة فيروز، قدمت فيه شخصية أبو صياح؟
صحيح… في فيلم «سفر برلك» كنت أول مرة أمثل شخصية أبو صياح، ولكن قدمتها من بعده في العديد من الأفلام، ولكن في هذا الفيلم كانت شخصية أبو صياح بارزة.

وكيف رأيت فيروز؟
فيروز كما يعرفها كل الناس علاقتها بالآخرين محدودة.

هل تسمع فيروز؟
أنا أحب أغاني فيروز كثيراً، ولا أسمع غير فيروز.

عندما تسمع أغاني فيروز بماذا تشعر؟
تشعرني أغاني فيروز بأن الموسيقا العربية وصلت إلى مكان راق، وفيروز تمثل الأغنية العربية الراقية، وبالنسبة إلي أنا أعتبر فيروز رمزاً للغناء العربي.

لماذا كانت السينما وخاصة السينما المصرية والسورية مزدهرة أكثر من الوقت الحالي؟
لأنّ المنتجين وقتها كان لديهم نشاط بأن يكون هناك سينما في سورية ولبنان، ولكن هذه المحاولات فشلت ولم تنجح، لأن المنتجين كانوا يتكلون على التجارة، وهدفهم ربحي بحت، وأصبحوا يقومون بمشاركتنا بالأفلام مع الممثلين المصريين على أساس أنهم يسعون إلى خلق سينما، ولكن السينما السورية بشكل خاص قدمت بعض الأفلام، كالأفلام التي قدمها الفنان دريد لحام وشاركت أنا في البعض منها، ولكنها لم تكن مبينة على أسس سليمة كي تبقى مستمرة وتشهد الازدهار الذي كنا نتمناه.

هل تابعت الأفلام السورية التي صدرت مؤخراً؟
للأسف لم أتابع… ولكن آخر فيلم شاركت به كان «سوريون» للمخرج باسل الخطيب.

هل ترى أن ما تقدمه المؤسسة العامة للسينما من دعم إنتاجي هو شيء جيد؟
لا شك في ذلك، وهي خطوة جيدة جداً ولكن لديّ ملاحظة، أنه من خلال الأفلام التي يتم إنتاجها، يجب أن يكونوا في أدائهم أقرب سواء من خلال التأليف أو المواضيع التي تقدم، لأنها يجب أن تكون مأخوذة من صلب الواقع السوري والمجتمع المحلي كي تحقق الغاية المرجوة منها وتكون في النهاية هي من الجمهور وإليه.

اعتبرك الكثير من الأشخاص مطلق «البيئة الشامية» من خلال برنامج «حوادث دمشق اليومية» للبديري وقمت بإخراجه؟
أعمالي الإذاعية بكل تواضع هي كثيرة وكنت بدأت بالإذاعة منذ عام 1961 وعملت ممثلاً ومخرجاً، فمشاركاتي كانت كثيرة على مدى واسع لذلك لا أستطيع أن أحصي أو أعد الأعمال التي شاركت بها، ولكن كلّها كان لها تأثير في المستمعين وهذا هو جل طموحي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن