ثقافة وفن

عنتر وشهرزاد وكورساكوف

| د. علي القيّم

من يتابع أعمال عمالقة الموسيقا الروسية، يجد بقوة وعظمة، تلك العلاقة الوشيجة والرائعة بين هذه الأعمال والموسيقا الشرقية، والأمثلة كثيرة وواضحة في أعمال «ريمسكي كورساكوف» (شهرزاد وعنتر، وليلة في المعرض)، و«جالينكا» في (روسلان وكودميلا) و«بالاكيريف» في (السيمفونية الشعرية – تامارا) والخمسة الأقوياء، وأشهرهم «بورودين» و«موسور غسكي» اللذان قاما بتلحين مؤلفاتهما على النمط الشرقي.
من أوائل أعمال ريمسكي كورساكوف، الرومانتيكية الشرقية، عمل يحمل اسم «عنتر» وهي سيمفونية استوحت من القصة العربية المعروفة جيداً، وكانت الطبيعة الصحراوية ومؤثراتها والحكاية التي تروي حكاية عنتر من أهم العوامل التي ألهبت خيال كورساكوف، وأخذ يعمل بحماس عظيم بعد أن تبحر في الألحان العربية، التي كانت الحجر الأساس، واستخدم كل مهارته في توزيعها، وكانت النتيجة خلق عمل فني رائع متماسك، لدرجة أن الملحن الفرنسي الشهير «ديبوسي» كتب عن هذا العمل فقال: «إن قوة هذه الألحان لا يمكن أن تقاوم… إنها تسحر المرء وتجعله ينتشي، وينتقل من حياته إلى حياة أخرى، لدرجة أنه لا يشعر بالجالس بجواره، ولا يتمالك أن يمسك شعوره ورغبته في الصياح بأعلى صوته… صياح الفرح والسرور… لا يوجد حقاً ما يعادل سحر التوزيع وتألق الأوركسترا واللحن».
لقد ألف «كورساكوف» بعد «عنتر» مجموعة من الألحان الشرقية، ولكنه لم يؤلف لحناً موسيقياً جديداً مهماً للغاية إلا بعد /20/ عاماً، على تلحينه «عنتر» ففي عام 1888م قام بتلحين سيمفونيته الرائعة «شهرزاد» المستمدة من قصتها في «ألف ليلة وليلة» وتشتمل على أربعة مقاطع هي: البحر وسفينة سندباد، وقصة الأمير، والأمير والأميرة، وعبد بغداد، وقد أراد كورساكوف توجيه خيال المستمع نحو سحر الشرق، حول ذلك يقول: «أريد من المستمع إذا أحب سيمفونيتي الموسيقية أن يشعر دائماً أنها من غير شك قصة شرقية مكونة من العديد من القصص الخيالية المتنوعة الرائعة».
وبالطبع فإن المستمع في «شهرزاد» يجد الصور الشرقية الحيّة الحافلة بالحياة وبتشكيلاتها الرائعة التي لا تنضب، لقد أظهر «كورساكوف» في لحنه هذا قوة خارقة في التعبير، عن البحر… فقد كان يعرف ويهوى البحر، وتدرب لكي يكون بحاراً، ولذلك سحر جماله، وانعكست آثاره في عدد كبير من أعماله، وتجلى ذلك بقوة في «شهرزاد» حيث تتضح صورة البحر بهدوئه الرائع، وتارة بتراكم أمواجه الهائجة المتلاطمة، وعليها تتهادى سفينة السندباد البحري.
إن موسيقاه في هذه الحركة غنية بالشاعرية الخلابة… وعندما تدق طبول الحرب، وتجري المعارك الدامية، تظهر الأحداث المهمة المؤثرة، المعبرة عن أحداث قرأناها في «ألف ليلة وليلة»، وفي المقطوعة الثالثة من هذه الملحمة الموسيقية تنتقل إلى أروع الألحان التي لا يمكن للمرء أن ينساها… وتأتي صورة أفراح الشعب وأعياده في المقطوعة الرابعة، التي تحفل بالبهجة والغبطة، حيث يعود مرة أخرى إلى معشوقه البحر الهائج، وبكل جمال ثورة يبتدئ تدريجياً بالهدوء، وتغمره أضواء أشعة الشمس، ومن بعيد تأتي فلول المنشدين لألحان شهرزاد.
لا شك في أن هذه الملحمة الموسيقية العالمية، هي من أروع ما قدّم «كورساكوف» حيث جمال اللحن، وعظمته، التي تدخل إلى أعماق قلوب المستمعين، وكانت «عنتر» حجر الأساس، التي يتحدث فيها بلغة صادقة أصيلة، ولهذا وفق «كورساكوف» في صنع «شهرزاد» المستوحاة من الشرق العربي.
وتابع هذه المسيرة في أعمال كثيرة، فنجد سحر الشرق حاضراً في أعمال لم تأخذ شهرة كبيرة مثل: أوبرا سادكو، وأوبرا «الجارية البيضاء» والعمل المهم جداً «الديك الذهبي» الحافل بالسحر والجمال وروعة التصوير والتعبير المستلهم من روح الشرق وعاداته وتقاليده.
بقي أن نقول: إن روح الشرق المتأصلة في كيان وأعمال «ريمسكي كورساكوف» استمرت في أعمال عدد كبير من تلاميذه، الذين حملوا الرسالة وقاموا بدورهم ببث هذا الحب والعشق في كثير من أعمالهم، وخير مثال، أعمال «آرام خاشادوريان» الرائعة أمثال: غايانية، وسبارتاكوس وغيرهما…

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن