قضايا وآراء

جنيف.. المعادلة المحلية

| مازن بلال 

مسار التسوية السورية يستند اليوم إلى جملة من «الهوامش» المكتسبة لكل طرف إقليمي، فتركيا تدخلت بشكل عسكري في سورية على حين ظهرت حزمة التوافقات الروسية الأميركية على مساحة من التحدي الإقليمي، فوزيرا خارجية البلدين أعلنا من جنيف مواقف دون التصريح بأنهما توصلا إلى حدود تمكن من انعقاد جنيف، وحسب وزير الخارجية الأميركي جون كيري فهناك «تفاصيل فنية»، وهي مؤشر أساسي إلى أن «التسوية» لا تزال غارقة في المراهنات الإقليمية بالدرجة الأولى، فهذه التفاصيل الفنية تتعلق أساساً بموقع الأدوار الإقليمية في العملية السياسية كلها، وترتبط أيضاً بإحكام الطوق على استخدام الإرهاب كعامل أساسي لرسم خريطة المنطقة، فالخلافات حول تمييز المجموعات المسلحة وفصلها عن النصرة هي في النهاية تناقض في التعبير عن هذه المجموعات، حيث لم يعد ممكناً النظر إليها إلا بمقياس قدرتها على سد الفراغ بدلاً من داعش والنصرة، وليس من معيار كونها حركات متطرفة أو تشكيلات عادية يمكن أن تنخرط في التسوية.
لكن مناقشات كيري لافروف في جنيف لم تكن بعيدة أيضاً عن غضب المبعوث الدولي لسورية ستيفان دي ميستورا؛ نتيجة عدم وجوده ضمن اتفاق مدينة داريا، ما يفتح الباب على تسويات إضافية تشعر الأمم المتحدة أنها بعيدة عنها، فكل ما جرى سابقاً من موسكو ومركز المصالحات في مطار حميميم كان إدخال مجموعات مسلحة إضافية في اتفاقية وقف الأعمال القتالية، على حين شهدت مدينة داريا خروجاً للمقاتلين، فهي فرضت عملياً عودة المدينة إلى سلطة الدولة من دون الشروط المفروضة بشكل دائم من الأمم المتحدة، فالتسوية في داريا تعني للعملية السياسية قدرة الحكومة السورية على إنهاء مجموعة من النزاعات بغض النظر عن مسار جنيف.
من جانب آخر فإن «داريا» شكلت نموذجاً لإنهاء العمليات القتالية عبر فرز العناصر داخل المجموعات المسلحة، فخيار البقاء أو الذهاب باتجاه مدينة إدلب يعني أن مسألة قتال الدولة محكوم بنوعية المجموعات المسلحة في أماكن سيطرة النصرة وداعش، ويمكن ملاحظة أمرين أساسيين هنا:
– الأول أن النصرة وداعش هما محورا الاستقطاب للمجموعات الأخرى كافة، والتمايز عنها محلي وليس في القدرة على الاستمرار، فمن دون التنظيمين السابقين يصعب على المجموعات البقاء بشكل منفرد، ورحيل مسلحي داريا كان ضمن خيارين: إما الرقة أو إدلب، ولم يكن هناك مساحات أخرى يمكن أن تكون ملاذاً لهما.
– الثاني أن الاتفاق يتم في ذروة الاشتباك الإقليمي، وبعد احتلال مدينة جرابلس التي لم تؤثر أحداثها في سير الاتفاق، على حين من المفترض أن يكون للتحرك التركي تداعيات على مجمل المجموعات المسلحة وخصوصاً أن العديد من شخصيات «الائتلاف السوري المعارض» أبدت تأييدها لعملية الاحتلال.
نموذج مدينة داريا يجعل مقاربة المباحثات في جنيف صعبة نوعاً ما، لأن الحدث الميداني لم يشكل في النهاية سوى غضب دبلوماسي، على حين تستمر المعارك والصدامات وحتى «التفاوض» على أرض المعركة، وبالتأكيد فإن التأثير الدولي يملك من القوة بحيث يغير من المعطيات، لكن ما يحدث عملياً أن هذا التأثير لا يملك تصورات جديدة لكسر الجمود الحاصل، وحتى بعض العمليات العسكرية لم تعد تستطيع أن تخلق منعطفات في الحدث؛ ما يجعل نموذج داريا حالة فارقة لقدرة التأثير المحلي للحكومة السورية في إحداث خروق، والشكل الذي ظهر فيه خروج المسلحين هو في النهاية حالة متكررة في ظل تكسر التوافقات الدولية أمام «التفاصيل» التي لا يمكن أن تظهر عن تصور جديد للأزمة السورية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن