ثقافة وفن

توفيق الحكيم حاور الحمير وعايشهم وفضلهم على كثير ممن لبس الثياب

| شمس الدين العجلاني

لا يخفي الأديب الكبير توفيق الحكيم إعجابه بالحمير وبعالم الحمير، فكان أشهر الأدباء في العصر الحديث بصداقته للحمار.. فكتب: (حمار الحكيم، والحمير، وحماري قال لي)، لتوفيق الحكيم مع جنس الحمير علاقة وطيدة، فقد حاورهم وعايشهم وفضلهم على كثير ممن لبس الثياب فبعد روايتيه «حمار الحكيم» و«حماري قال لي»، كتب مسرحية «الحمير»؛ وقد مات وهو لم يكمل مشروع مسرحيته الثانية «الحمار يفكر». فما دلالة الحمير لديه؟ وما سر تفننه بهذه الحيوانات الصابرة المناضلة؟ هل يعنيها حقاً أم إنه يستغلها للدفاع عن آرائه؟

مسرحية «الحمير» مسرحية اجتماعية صيغت في أغلبها باللهجة المصرية العامية، وهي من مسرحيات الحكيم القليلة التي يمكن تمثيلها على خشبة المسرح؛ فمعظم مسرحياته تنتمي إلى ما يطلق عليه «المسرح الذهني» الذي يكتب ليقرأ، ويكتشف القارئ من خلالها رموزاً ودلائل لواقع الحياة، وتحتوي نقداً للمجتمع، يقول الحكيم: «قيم مسرحي داخل الذهن وأجعل الممثلين أفكاراً تتحرك في المطلق من المعاني، مرتدية أثواب الرموز لهذا اتسعت الهوة بيني وبين خشبة المسرح، ولم أجد قنطرة تنقل هذه الأعمال إلى الناس غير المطبعة».
اشتهر الحكيم ككاتب مسرحي بعد نجاح مسرحية أهل الكهف عام 1933 وأصبح له أسلوب خاص في الكتابة، وهو المزج بين الرمزية والواقعية، وهو أسلوب فريد ومتميز به، من خلال ابتكار الشخصيات واستخدام الأسطورة والتاريخ، كما تميز بقدرته على التصوير فيصف بجمل قليلة ما يصفه البعض في صفحات كثيرة.
والحكيم هو الأب الروحي لكتّاب الحمير المصريين في الأدب المعاصر، ويقول الحكيم «الحمار له في حياتي شأن.. إنه عندي كائن مقدس كما الجعران عند المصريين القدماء».
رافق الحمار توفيق الحكيم في كل مغامراته تقريباً ومن هنا نشأت بينهما صداقة وألفة وصارا صديقين حميمين فعندما أراد أن يكتب تأملاته ومناقشاته السياسية والاجتماعية والثقافية النقدية كان لابد له من أن يختار له رفيقاً يرافقه في هذه المناقشات ويحاوره، وفى الوقت نفسه يستريح له ويحبه ويستحسن لو كان لا يعانده فلم يجد الحكيم أفضل من رفيق دربه وصديقه الصدوق حماره الذي أصبح أشهر حمار بعد حمار جحا، بسبب تلك المناقشات التي دارت على لسانه مع الأديب توفيق الحكيم.
يقول الحكيم: لقد سميته -أي الحمار- الفيلسوف وقد علمني أشياء كثيرة بمجرد صمته.

حماري والطوفان
يروي لنا الحكيم عن حوار دار بينه وبين حماره يبدي فيه الحمار رأيه في طوفان نوح قائلاً: إن الأرض بعده أنبتت الشر أيضاً من جديد، فأجابه الحكيم: أتدري لماذا؟ لأن إبليس كان قد دخل السفينة مع من دخل، ولم يغرقه الطوفان مع من أغرق، لم يحدث الطوفان إلا مرة واحدة أقصد طوفان الماء، وقد وعد الله بألا يعيده ولكنه استعاض عنه بطوفان من نوع آخر يحدث في كل جيل مرة أو أكثر ذلك طوفان الدماء!
ولكنه لا يجدي أيضاً فقد شربت الأرض دماءها وابتلعت آثامها وظن العالم أن أصنام القوة المادية قد حُطمت وأوثان الطغيان قد هُدمت، وأن الحق وحده هو المسيطر، وأن الخير هو المنتصر.. وأن الدول الصغيرة والدول الكبيرة سواء أمام سلطان الحق وحده، وأن الشعوب القوية والشعوب الضعيفة متساوية أمام سيد واحد هو: النفع العام لبني الإنسان دون أثرة أو نعرة.. ونهض الناس سائلين الله ألا يعيد الحرب مرة أخرى.. فما الذي حدث؟ حدث الذي حدث في الطوفان الأول تعلق إبليس بذيل الرئيس ولسون! صاحب المبادئ الأربعة عشر المشهورة التي كانت ستكفل للعالم سيادة الحق والعدل والخير والسلام. إذاً لقد خاب ذلك الطوفان وها نحن أولاء في طوفان جديد.. لم تبتلع الأرض بعد دماءه، فقد ضربت القنابل كل بناء وهدمت كل جدار، أظن أنه قد آن للبشرية أن تعقل وأن تبلغ رشدها وأن تتحرر نهائياً من طغيان غرائز الدنيا وأن تكف عن تمزيق بعضها بعضاً، وأن ترتفع إلى حيث تعمل متكافئة لمصلحة الإنسانية كلها جمعاء، من دون ضغائن ولا سخائم ولا بغضاء.. ومن دون تمسك بغرور كاذب، وعظمة زائفة وحب تسلط وشهوة وسيطرة، من دون عبادة لأصنام الكبرياء الذاتي.
ويخالفه الحمار الرأي قائلاً: إن هذا شيء عسير على الإنسان لابد للإنسان من عبادة الأصنام، لم يستطع طوفان الماء ولا طوفان الدماء أن يغرق الأصنام التي يصنعها الإنسان لنفسه! أجبني إذاً ما فائدة الطوفان إذا كان لا يستطيع أن يغرق إبليس؟. لم يُجعل الطوفان ليحل شيئاً ولكن ليلطف من وقع الأشياء، إنه حمام يهدئ أعصاب البشرية كلما احتاج الأمر، لقد فقدت الأمل في وجود العلاج الحاسم، فلم يعد حتى طوفان الدماء في نظري غير نوع من الحجامة أو الفصد يلجأ إليه الإنسان كلما ازداد الضغط. والعلاج عندي أقصد عند فصيلتي فنحن نفكر جميعاً تفكيراً واحداً فليس عندنا حمار مثالي وآخر مادي، وليس عندنا زعماء ولا قادة، ولا أوثان ولا أوطان، بل يوجد حمير على أرض الله وكفى، شعورها واحد وقلوبها واحدة.
كبرياؤكم الزائل إنه في دمكم الذي فسد، لا أمل فيكم ولا علاج لكم إلا بعملية نقل دم جديد، وإنها لتضحية كبرى من فصيلة الحمير لا أنصح أن تتحملها من أجلكم!

مستقبل الحمار
يقول الحكيم: قال لي حماري ذات يوم: ألم تفكر في مستقبلي، لقد عشت معك حتى الآن عارياً لا سرج من ذهب ولا برذعة مرصعة، هذا ما يشغل اليوم كل إنسان، إن الناس كلها من حولنا تفكر في الذهب وتعيش للذهب وتتنفس بالذهب، ولا أجد عندك سوى كلمات! وهنا يعنفه الحكيم قائلاً:
أنا لا أطيق أحداً يحقر الأفكار والكلمات! إن الكلمات هي التي شيدت العالم، إن محمداً صلى الله عليه وسلم لم ينشر الإسلام بالذهب، بل بالكلمات، وإن عيسى لم ينشئ المسيحية بالمال، بل بالكلمات الصادقة والأفكار العالية والمبادئ العظيمة هي وحدها التي قادت الإنسان في كل أطوار وجوده، وبنت الأمم والشعوب في كل أدوار تاريخها، ما من حركة وطنية أو قومية أو إنسانية قامت أول أمرها على شيء غير المبادئ والكلمات، وعندما يظهر الذهب آخر الأمر ببريقه ورنينه فاعلم أن أوان الانهيار قد آن، وأن هذا البريق سوف يذيب المبادئ بأشعته الساحرة، وأن هذا الرنين سوف يصم الآذان بجرسه الفاتن عن سماع الكلمات.
ألا تسمع أن كل رجل كفء يتباهى بأن دخله من الشركات كذا ألف؟ فإذا طُلب لواجب قومي وازن في الحال بين خسارته المالية هنا وربحه المالي هناك. حتى المعنويات والمثل العليا فقدت قيمتها في سوق الذهب، فينسى الأطباء أحياناً واجبهم الحقيقي ويفخر أحدهم بدخله السنوي، ولا يفخر بعمله الإنساني، والزواج هو الآخر أصبح علاقة مكسب وخسارة في ميدان المال فإذا تزوج أحدهم تساءل المجتمع على الفور عما تملك العروس، لأن هذا هو المبدأ الذي تقوم عليه الآن هذه الشركة «المقدسة»!.
ورجال العلم تركوا عملهم ونظروا إلى الدرجات والمرتبات، فلن تجد في بلادنا عالِماً منكباً على عمله تحت «مكرسكوب» ليل نهار ليستكشف جديداً من دون أن يكون له مطمع غير أفكاره العلمية ونجاحها، وخدمة الإنسانية لذاتها.
ويضيف الحكيم مخاطباً حماره: أيها الحمار العصري، إن الأفكار والمبادئ ليست من البدع القديمة في الشعوب كافة.. انظر حولك تجد شعوباً لم تزل تبذل دماءها سخية من أجل أفكار ومبادئ، ما الدافع الذي يدفع هؤلاء الملايين من الشباب الناضر إلى الجود بأرواحه ودمائه؟ أهنالك دافع آخر غير بضع كلمات آمن بها فدفع فيها دمه الغالي؟ إن الأفكار والمبادئ ليست من البدع القديمة إلا في نظرنا نحن، إن الكلمات الصادقة العظيمة بخير وهي لم تزل حافظة قوتها في كثير من الأمم والشعوب قديرة على أن تثير في القلوب حب التضحية بغير ثمن.
لقد اجتمع الضدان في كل زمان منذ فجر الخليقة، والعظمة تسير إلى جانب الحقارة والسمو إلى جانب التدهور والعلو إلى جانب الحضيض ولكن العبرة أي الطريقين تختار لنفسك ولأمتك؟.

معشر الحمير ومعشر الآدميين
يروي الحكيم أن حماره سأله ذات يوم عن الفرق بين معشر الحمير ومعشر الآدميين؟ وأجاب الحمار: وجدت أن الفرق الأساسي بيننا وبينكم هو أنكم تعرفون النفاق ونحن لا نعرفه وقد عللت نفسي ومنيتها بحلم جميل هو أن تعلمني النفاق لأنه لو أمكنني تعلم النفاق وإدخاله في فصيلة الحمير لانقلبنا مخلوقات مثلكم.
ولكن يختلف الأديب الكبير توفيق الحكيم مع أمير الشعر العربي أحمد شوقي حين يقول عن الحمار:
سقط الحمار من السفينة في الدجى فبكى الرفاق لفقده وترحموا
حتى إذا طلع النهار أتت به نحو السفينة موجة تتقدم
قالت خذوه كما أتاني سالماً لم أبتلعه لأنه لا يهضم
حوار الحكيم مع حماره حول الطوفان كان يحلم من خلاله أن يكون: «الحق وحده هو المسيطر، وأن الخير هو المنتصر.. وأن الدول الصغيرة والدول الكبيرة سواء أمام سلطان الحق وحده، وأن الشعوب القوية والشعوب الضعيفة متساوية أمام سيد واحد هو: النفع العام لبني الإنسان من دون أثرة أو نعرة.. ونهض الناس سائلين الله ألا يعيد الحرب مرة أخرى..».
ترى لو قدر للأديب توفيق الحكيم أن يعيش زماننا هذا ويشهد جنون الحرب التي مزقت وطننا وتآمر الدول الكبرى على القيم الإنسانية حتى وصلنا إلى حال لا نجد في مفردات اللغة وقواميسها ما يمكننا من وصفها من قتل ودمار وإرهاب، ترى سيكون بمقدوره أن يحاور حماره وهل يستطيع هذا الأخير الموصوف بالصبر أن يبادله الحوار.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن