ثقافة وفن

منحوتات من صخور عمرها أكثر من عشرة ملايين سنة … النحات عفيف آغا يتكلم الصمت في داخلنا بسرعة الطلقة أو صرخة الولادة

| سوسن صيداوي

المطر.. النافذة.. اللامرئي.. الخبايا والمكنونات.. الأفئدة التي تنتعش افتتاناً.. للمدى والفراغ المتحرك.. للسلام الداخلي والغنى النفسي والجسدي.. نكتسب السكينة.. نشعر بدفء الداخل المتأجج والمتناغم في أوج الزمن الآخر… « من يجد القلب الدافئ لا يهب العواصف»… هذه بعض من كلمات كتبها النحات عفيف آغا في البطاقة التعريفية لمعرضه الأخير « نبض الصمت»… وهي كلمات حاول النحات أن يعبر بها عن منحوتاته الخمسين التي احتضنها المعرض.
صحيفة «الوطن» التقت النحات عفيف الآغا.. وإليكم الحوار:

تحدث لنا عن بداياتك وكيف اتجهت إلى فن النحت بالذات؟
منذ طفولتي عشت قريباً من السواقي والأشجار وكنا نصنع من الطين لعباً متعددة الأشكال، وهذه الحالة اختزنت في ذاكرتي، وبعد عشرين سنة تقريبا، اكتشف أنني أستطيع أن أكون فناناً وبدأت المشوار الفني في الثمانينيات حيث بدأت بمعرضين للرسم، ولكن ذات مرة كنت أسير على شاطئ البحر، فاستوقفتني الأحجار الملفوظة من عمقه، وما لفت انتباهي هو التكوينات المختلفة لهذه الأحجار، وحتى إنني وجدت تكوينات جميلة أستطيع أن أعمل عليها، فقمت بجمع بعضها، ومنها خطرت ببالي فكرة بأنني أستطيع دخول عالم النحت رغم صعوبته ولكن بشيء جديد ونموذجي من نوعه، ومن هذه الفكرة قمت بالنحت الحجري الصغير على مجموعة من الأحجار من خمس ميليمترات حتى عشر سنتمترات وهي في الوقت ذاته أحجار كان البحر قد لفظها، وبدأت بهذا المنحى الذي أخذ مني وقتاً طويلاً حتى عام 1991 حيث أقمت المعرض بالمركز الثقافي العربي بدمشق، وكان اسم المعرض «النحت الحجري الصغير»، وبعدها عملت مئة وثمانين معرضاً للنحت بمنحوتات لا يمكن رؤيتها إلا عبر مكبرات، وما ساعدني بعرضها وجود مكبرات في المراكز الثقافية، وهكذا دخلت إلى عالم النحت.

ما طبيعة المواد التي تتعامل معها في النحت وتجدها مطواعة بين يديك؟
أنا أحب الحجر وأعمل عليه وكأنه ليس حجرا، بل أشعر بليونته ومرونته وكأنه طين ولا أجد في التعامل معه أي صعوبة، وأحياناً أعمل على الخشب، ولكنني لا أشعر بالراحة في استخدامه كمادة نحتية رغم أنه أكثر مرونة من الحجر، أنا أعتبر العمل على الحجر تحدّياً للمادة وأنني أستطيع اختراقها، وفي النهاية انتصرت عليها بأنها تحولت إلى الشكل الذي أنا أريده.

ولكن ما هو معروف أن الحجر بارد بعكس المواد الأخرى كالخشب، ومن منحوتاتك أنت شكلت أقنعة ووجوهاً وهذه تحتاج إلى مرونة؟
على النحات ذاته أن يعطي الحجر الدفئ، ومن خلال اكتمال العمل بسطوحه الملساء والخشنة والتي خلقها النحات نفسه، فالأخيرة هي التي تعطي التكوين الكامل للعمل، وبالنسبة للوجوه فهي فضائية خيالية وليست إنسانية، وقصدت بذلك لأن الحضارة أصبحت رمزاً وشيئاً من الخيال، أو يمكنني أن أعتبرها وهمية وربما لها علاقة بالداخل، والداخل هو الروح والروح متعلّقة بالفضاء، وبالتالي يمكن أن تكون هذه الوجوه كونية، ونحن اليوم نعاني من ظروف الأزمة لهذا ننتظر الخلاص، ومنحوتاتي فيها من العمق والخيالية والبعد الروحاني المتصل بالفضاء، وبأنه لو كان هناك من هم إنسانيون حقيقيون ممتلئون بالنور لما سمحوا للظلاميين أن يخربوا بلدنا.

باعتبارك ذكرت الخلاص.. لديك منحوتة، هل يمكن اعتبارها هي إكليل الشوك للمسيح المخلص في المسيحية؟ وهل لمنحوتاتك ارتباط ديني؟
الارتباط الديني هو ارتباط أخلاقي وإنساني، ومنه يمكنك أن تعي قيمة الوجود، وبالتالي وجود «المخلص» مذكور في التاريخ فهو بعل، وهو مار جرجس، وهو الخضر… وهكذا حسب التسلسل التاريخي والديني، وكلّها برسائلها تسعى للتخلص من الشر والظلم ونشر الخير، النور، والسلام في العالم.

معرضك الأخير حمل عنوان «نبض الصمت».. ولكن صمت منحوتاتك يتكلم؟
عملت توافقاً لأكثر من خمسين مادة من بداية الأزمة، لأنه وقت الأزمات لابد من الصمت أحياناً أمام هول الحالة والكارثة، فالصمت يكون ردة الفعل عن الحالة ولكن الصمت في داخلنا ينبض ويتكلم بسرعة الطلقة أو صرخة الولادة، ولهذا ربطت الطبيعة مع الإنسان، والنبض هو التوافق بين الإنسان والطبيعة، وكيف يفكر الإنسان مثلا سواء بالفضاء أم كيف يفكر بالمخلص، وكيف يفكر بالسلام من خلال التاريخ الأوغاريتي أو التاريخ السوري.

يُلاحظ في منحوتات «نبض الصمت» أن هناك فراغاً في داخلها ما الهدف منه؟
الفراغ هو حالة أتعامل معها وكنت قدمتها في عدة معارض وفي أكثر المعارض السابقة مثل معرض الزمن الآخر ومعرض حركة الذات وغيره الكثير من المعارض التي حملت الفكرة نفسها، وكلها كانت نتاجي كفنان عبر إدراكي وثقافتي وتاريخي في العالم الفني، وأنا عملت كثيراً على الفراغ الذي يجسد صراع الإنسان مع المادة وكيف يتم التوافق بين المكنونات المادية، لهذا جاء العمل الفني مع المحيط من دون أي حركة واخترق فيه وفي النهاية السيطرة على الفراغ، والأعمال هي تعبير عن تحقيق الانتصار الأمر الذي يعطينا شعوراً بالسكينة والهدوء وهي تعكس الحالة المطلوب تجسيدها على العالم الخارجي.

ولكن النافذة هي شيء ناطق وليس صامتاً وهل يمكن اعتبارها انتقالاً إلى بُعد أخر؟
نعم يمكننا قول هذا وخاصة أن بعض الأعمال فيها بُعد وتشبه النافذة أو مثلاً السلحفاة، فالعالم اليوم هو عالم الإنترنت والإعلام، والنافذة أو السلحفاة كي يسيطر المرء على الواقع، وخاصة أن النافذة هي عين أو بصيرة والبصيرة هي الأساس التكويني للإنسان وهي التي تحدد دقة الصح والخطأ، أو تنقلنا إلى عالم الكون والفضاء وعالم المكنونات الافتراضية ومكنونات الإنسان الداخلية وعالم الصح، وليس عالم الإنترنت وعالم الإعلام.

اهتمامك بالنحت الحجري الصغير واضح جداً بين منحوتات معرضك «نبض الصمت»؟
صحيح… فرغبتي بالنحت الحجري الصغير عالية، وما أحب أن أشير إليه هنا… أن فناني الحضارة الأوغاريتية كانت أعمالهم النحتيّة كلّها صغيرة سواء الأبجدية أو الإله بعل، ويعود السبب إلى أنهم كانوا يخشون عليها من الغزوات فكانت بحجم صغير من أجل حمايتها وسهولة إرسالها إلى البلدان الأخرى، وبالنسبة لي عملت أحجاماً أكبر إلى حد ثمانين سنتمتراً تقريباً، في معرضي الأخير كان حجم المنحوتات صالونياً وأيضاً لسهولة نقلها في ظل الظروف الحالية.

إذاً النحات السوري تأثر بالأزمة الحالية وكأنه أيضاً أصبح يفكر بعقلية الأوغاريتي القديم؟
هذا ممكن… ولكن للأسف لا يوجد سياحة أجنبية في البلد، وأغلب صالات العرض أقفلت، وكنت أتمنى لو لدينا سياحة أجنبية في الوقت الراهن، كي يروا أن في سورية ما زال هناك حياة وأنها لن تتغير وستبقى مستمرة من خلال النحت والرسم والموسيقا والناس التي في الشوارع تمارس حياتها الطبيعية، وطبعا عندما يأتي الأجنبي ويرى الواقع الحالي سيكره إعلام بلده الذي يقوم بتشويه الحقائق ويساهم في تأزيم الوضع في سورية.

هل حاولت أن تقيم معارض خارج سورية لنشر الفن السوري خلال الأزمة؟
نعم حاولت كثيراً أن أقيم معرضاً في الخارج، ولكن للأسف ليس من السهل أبدا الحصول على تأشيرة سفر، ولكنني سأحاول ولن أستسلم أو أحبط.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن