ثقافة وفن

خانات دمشق… إرث عمراني فريد

| دمشق – منير كيال

كان لموقع مدينة دمشق على طريق القوافل التجارية، أن لعبت هذه المدينة دوراً مميزاً كمحطة تجارية كبرى، الأمر الذي تطلب إنشاء منازل يستريح بها المسافرون والتجار من وعثاء السفر، وتكون لهم أمناً ومأمناً، على غرار المنازل التي كانت على طريق الحج الشامي على وجه خاص… وقد أطلقت على هذه المنازل عدّة تسميات كان منها: الوكالة والقيسرية، وأحياناً الفندق، ثم غلب عليها اسم الخان، والخان كلمة تعني ملك ورئيس، كان يُلقب بها أمراء التتار، وهي من ألقاب ملوك الفرس والسلاطين العثمانيين، وكان يطلق اسم الخان عند الأتراك على الفندق، ومنه أخذه العرب.
وقد اهتم ببناء الخانات الملوك والولاة وأهل اليسار من محبي الخير العام، أكان ذلك بخانات الطرق العامة أم بالمدن، وذلك لمبيت القوافل وأبناء السبيل، وقد حبسوا (أوقفوا) لها الأوقاف لصيانتها، والإنفاق من ريعها على وجوه الخير وعلى العاملين والقائمين عليها، بل النازلين فيها، فضلاً عن إيواء اليتامى والفقراء وأبناء السبيل، حسبة لله تعالى. يُبنى الخان من الحجر، على هيئة أقرب إلى الحصون والقلاع منه إلى الدور، وهو على الأغلب على شكل ساحة مربعة حولها غرف في طابقين، وفي جوانب هذه الساحة (الباحة) الإسطبلات، ومن هذه الإسطبلات ما كان لها معالف تربط عليها الدواب.
وكان المسافرون يبيتون بالطابق العلوي، وتترك الحيوانات بالطابق الأرضي ونجد بدمشق خانات حملت اسم بانيها كخان أسعد باشا، ومنها ما نسب إلى سواد النازلين بالخان كخان الحماصنة وسوق مدحت باشا، ومن الخانات ما نسب إلى السلعة أو الحرفة التي بالخان، ومن ذلك خان الزيت وخان الدبس وقد كثر بناء الخانات بدمشق في العصرين المملوكي والأيوبي، لكن ما بقي منها ماثلاً يعود معظمه إلى العصر العثماني، يوم كانت دمشق تغص بالتجار من مختلف الأجناس، ومركزاً لالتقاء القوافل الوافدة إليها، الأمر الذي أدى إلى اتساع أسواق دمشق، ومن ثم بناء خانات جديدة اتخذت منازل للتجار الوافدين إلى دمشق وبضائعهم.
وقد تميزت الخانات التي تعود إلى القرن السابع عشر والثامن عشر بالقباب التي تغطى باحاتها (ساحاتها) اتقاء للأنواء من حر وقر وأمطار، وهذا أمر ساعد على الإفادة من هذه الباحات لتخزين البضائع.
وكان من تزايد أعداد الخانات بدمشق بهذه الحقبة أن فاق عدد خانات هذه المدينة 130 خاناً، كما يذكر القساطلي في كتابه الروضة الغناء بدمشق الفيحاء، وقد كان خان أسعد باشا والي دمشق أهم وأميز وأبهى هذه الخانات، كما أنه أهم خانات المشرق العربي، وقد امتاز بضخامة البناء وروعة التصميم وفخامة المدخل فكان أجمل ما بني بدمشق من الخانات، وهو يقع بسوق البزورية على مقربة من قصر أسعد باشا الذي يُتخذ متحفاً للتقاليد الشعبية في هذه الأيام، فقد وظف أسعد باشا لبناء الخان إمكانيات العمارة السورية في تلك الأيام، حتى إن لامرتين عندما زار دمشق سنة 1833م اعتبر هذا الخان أفضل خانات بلاد المشرق، وقال إن هذا الخان يذكره بفن عمارة البندقية في عصر النهضة، وأجمل ما في مدخل هذا الخان المقرنصات الحجرية المحمولة على ثلاث أقواس نصف دائرية تستند إلى ثلاثة أعمدة. وبكل جانب من هذا المدخل، أما باحة الخان، فقد بلغت مساحتها 725 متراً مربعاً، وتتوسطها بركة كبيرة، وفوق هذه الباحة ترتفع قبة مركزية كانت قائمة على أربعة أعمدة تشكل عقدة الوسط بين قباب الخان التسع التي ترتفع إلى نحو 20 متراً وهذه القباب محمولة على 25 عقداً حجرياً تستند من ناحية إلى الأعمدة الأربعة التي تحمل القبة المركزية من جهة، كما تستند من الجهة الأخرى إلى جدران الخان المحيطة بالباحة.
وقد استخدمت هذه الخانات للمسافرين كما استخدمت للتجارة واستخدمت خانات أخرى لأغراض لا ترتبط بالوظيفة التي قام الخان من أجلها، فمن الخانات التي لم ترتبط بوظيفتها، ما استخدم لتزجية الوقت والتسلية فكانت كالمقاهي لشرب القهوة وتناول الشاي وتدخين الأركيلة واللعب بالنرد (طاولة الزهر) والشدة أو الاستماع إلى الحكواتي، فهي في ذلك كالمقاهي ومن هذه الخانات ما كان لبيع الخمور وتناولها ومنها الخان الذي كان بالقرب من قبة الفحم، كما أن من الخانات ما كان للعاهرات وللخمور كخان الزنجاري بظاهر العقيبة بدمشق وقد هدم هذا الخان وبني مكانه مسجد التوبة المعروف. ومن الممكن إضافة خانات أخرى إلى هذا النوع من الخانات التي تخلت عن وظيفتها، وتنطبق هذه الإضافة إلى الخانات التي كانت بأطراف خارج سور دمشق، وقد أطلق عليها اسم خان جوازاً، لعدم توافر المواصفات العمرانية والوظيفية التي كانت عليها الخانات العامة، لكونها أشبه بالزريبة التي تؤوي الحيوانات، وتستوعب الوافدين إلى مدينة دمشق للعمل بالمياومة، والقادمين من البلدان والقرى المحيطة بدمشق حاملين معهم ما يرغبون في بيعه، من مشتقات الألبان والبيض ونحوها من المحاصيل البسيطة أو الخفيفة، فيتركون رواحلهم بذلك الخان، ويعمدون إلى بيع ما معهم وقضاء حوائجهم وشراء مستلزماتهم ثم يقفلون عائدين إلى قراهم بعد أن يأخذوا رواحلهم.
أما ما كان للمسافرين من الخانات، فكان أصحاب الخان يؤجرونه إلى أناس وهؤلاء يأخذون من المسافرين أجر المبيت بالخان، وهذا الأجر حسب المكان في الخان، ومدّة الإقامة به، وهذا الأجر طفيف يمكن أن يتحمله كل إنسان، ومن هذا النوع من الخانات ما كانت غرفة مفروشة أو بلا فرش.
أما الخانات التي حافظت على وظيفتها، فهي خانات التجارة، وقد توضعت هذه الخانات (انتشرت) في إطار مدينة دمشق القديمة، بين الجامع الأموي وسوق مدحت باشا بما في ذلك سوق البزورية وسوق الحرير وسوق الخياطين فضلاً عن الخانات التي كانت بسوق العتيق والعقيبة ما تتطلبه حركة الأخذ والعطاء (البيع والشراء) وكان من أهمها:
خان أسعد باشا بالبزورية وهو الخان الذي أتينا على ذكره بهذا البحث وخان الصدرانية أيضاً بسوق البزورية ثم خان الدكّة وخان الزيت وخان سليمان باشا المعروف بخان الحماصنة، وخان جقمق الذي يعود إلى العصر المملوكي هو بسوق مدحت باشا، ثم خان الجمرك وخان الحرير وخان الحرمين (الجواري) بسوق الحرير إضافة إلى خان الدبس وخان البطيخ بسوق العتيق.
وخانات التجارة التي نحن بصددها مبنية من طابقين، وغرفها بمنزلة دكاكين للتجارة يعرضون بها ما خف وزنه وغلا ثمنه، من أقمشة الحرير والملابس، أما بضائع مال القبان كالرز والسكر والسمن فتوضع في باحة الخان. وكان لكل من هذه الخانات بواب يستأجر باحة الخان، وله أن يأخذ مبلغاً من المال عن كل وحدةٍ تخرج من الخان من المشتري، ثم أصبح التجار البائعون هم الذين يدفعون للبواب أجراً مقطوعاً.
ولكل بواب خان مساعدان، أحدهما الناطور الذي يقوم على حراسة الأرزاق التي بباحة الخان ليلاً وفي الصباح يسلم هذا البواب ما كان بعهدته من الحراسة مقابل أجر يتفق عليه مع البواب، أما المساعد الثاني فكان يقوم بكنس وتنظيف باحة الخان.
وكان لبعض التجار النازلين بالخان أمام أبواب غرفهم تخوت أو دكك يجلسون عليها وأمامها كراسي لجلوس المشترين، كما كان لكل خان حزامون لحزم البضائع للتجار مقابل أجر لكل حزمة واحدة (فردة) والحزمة يكون حزمها متيناً بحيث لا يمكن أن يتخلخل حزمها أو ينفرط مهما كانت مسافة نقلها طويلة، ذلك أن الحزامين مختصون بهذا العمل، ومن ثم لا يجوز لغير حزامي بضائع هذا الخان العمل بخان آخر، لأن لكل خان حزامين وحمالين خصوصيين لا يجوز لغيرهم العمل بخان آخر.
ولعل من المفيد بختام هذا البحث الإشارة إلى ما كان عليه التجار في تلك الفترة، فقد كان لكل من التجار المتوسطي الحال كاتب مختص يزوره مرة أو مرتين بالأسبوع ليسجل له مبيعاته ومشترياته، وخلال فترة غياب ذلك الكاتب كان التاجر يطلب إلى من يعرف الكتابة أن يسجل له على ورقة عادية (طيارة) ما يبيع أو يشتري، حتى إذا جاء الكاتب يسجل ذلك في الدفتر (السجل) وكان الأكثرية المطلقة من التجار أمينة على ما يستودعها الناس، وهي صادقة في تعاملها، والتاجر يحافظ على كلمته، ذلك أنه كثيراً ما كان البيع والشراء في الصفقات الصغيرة والمتوسطة بالقول فقط، فمن باع لا يرجع ومن اشترى لا يقلب مهما قد يناله من الخسائر، ولم تكن تعرف الكتابة بالبيع والشراء إلا في الصفقات الكبيرة وقد أنشأت الحكومة العثمانية محكمة للتجار بدمشق، بقيت هذه المحكمة ثلاث سنوات لم يدخلها شاكٍ رحم الله تلك الأيام.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن