قضايا وآراء

أيـــن اليســـار؟

| عبد المنعم علي عيسى 

قد تكون مهمة التصدي لتلك الفصائل الظلامية المدارة خارجياً والساعية إلى هدم كياننا قبل كيان الدولة السورية هي مهمة القيادة السياسية والعسكرية للبلاد بالدرجة الأولى إلا أن استمرار الصراع وطول أمده والأهم من ذلك كله اتضاح معالمه بكل أبعادها، فبعد أن كنا نظن أن المرامي تقتصر على إرجاعنا إلى عصر الطربوش العثماني اكتشفنا أن الطموحات ترقى إلى أبعد من ذلك بكثير، كل ذلك يحتم على القوى الوطنية وبالدرجة الأولى منها اليسارية والعلمانية والليبرالية تفعيل قواها بالدرجة القصوى للوصول إلى مرحلة سد اجتماعي داعم للدولة والجيش السوريين.
قد يكون اليسار في سورية (كما في العالم) قد تلقى ومنذ نشوئه الكثير من الضربات التي تتحمل بعض قياداته مسؤوليتها بفعل مواقف كانت بعيدة عن آمال وأماني الشارع مثل الموقف من المسألة الزراعية 1954-1958 والموقف من المسألة القومية 1958-1961 وبعضها بفعل عوامل خارجية- داخلية متداخلة أدت إلى المزيد من حركات الانقسام التي كانت تشبه إلى حد بعيد انقسام (الهيدرا) وبعضها الآخر بفعل عوامل خارجية بحتة مثل سقوط الاتحاد السوفييتي الذي ارتأى منه أغلبية اليساريين مرحلة «يتم» سياسي تقتضي الدخول في مرحلة التيه ما بعد موسكو 25 كانون أول 1991.
إلا أن هناك العديد من المعطيات التي أخذت تتبلور على امتداد عقد ونيف لتشكل مناخات مساعدة على تعافي اليسار والفكر اليساري ومنصة حقيقية للنهوض من جديد فقد فرضت الأزمة الرأسمالية البادئة في نيويورك 2008 العودة من جديد إلى الماركسية لتفسير العديد من الظواهر الاقتصادية والثقافية والسياسية، أيضاً شكل سقوط حكم الإخوان المسلمين في مصر 2013 وفشلهم في تونس 2014 وسقوطهم الذريع في محاولتهم للمرة الثانية (المرة الأولى كانت 1977-1982) الوصول إلى السلطة في دمشق 2011-2014 بدعم أميركي مطلق، مناخاً كانت له انعكاساته على الشارع السوري (والمنطقة) وعلى نخبه الثقافية والسياسية بالدرجة الأولى، بحيث لم يكن صعباً على أي متبصر أن يلاحظ نمو مد يساري جنيني قادر على النمو إذا ما لاقى ظروفاً مناسبة وما يؤخذ على قيادات اليسار هو أنها لم تلحظ (أو كان ذلك سوء تقدير) أو تعر اهتماماً لدقائق وتفاصيل سياسية اجتماعية هي على درجة عالية من الأهمية في العمل السياسي تمظهرت ببروز حالة احتياج داخلية لوجود لاصق سياسي- وطني عابر للمذاهب والأديان والطوائف ومن المؤكد أن خزان اليسار هو الأقدر على احتضانه وإعادة تأهيله اليوم وبعدما يزيد على خمس سنوات من الحرب السورية هناك سؤال مهم هو ماذا فعل اليسار في خضم هذه الحرب الطاحنة؟ خصوصاً أن الخصم في وجهه الثقافي والفكري هو النقيض تماماً له (لليسار) والمعركة اليوم لم تعد على احتلال تلة حاكمة أو هضبة استراتيجية بل على احتلال العقول أو تعاطف القلوب ولليسار في ذلك باع طويل إذ لطالما تميزت تياراته وأحزابه على الدوام بثقل ثقافي هو أكبر بكثير من ثقلها السياسي أو التنظيمي وهذا الكلام ليس ذماً –بل مدح- لها.
نحن هنا لا نعني باليسار تلك النخب المتلونة والقادرة على القفز من ضفة إلى ضفة أخرى أو من خندق إلى خندق آخر جدرانه من السيراميك فتاريخ اليسار سمى لنا أنواعاً عديدة من ذلك اليسار منها الطفولي والمتطفل والوصولي والمغامر… الخ وقد كان لافتاً في بدايات الأزمة السورية تموضع جديد للكثير من نخب اليسار التي كانت تحمل فكراً وتراثاً مميزاً يرقى لدى البعض إلى درجة «الأستذة» وبعض تلك الحالات كان مثيراً للضحك في تبرير ذلك التموضع الجديد فقد شاع (مثلاً) في أعقاب التحاق الأستاذ رياض الترك بالمجلس الوطني السوري غداة تأسيسه في استانبول 2/10/2011 ذي الهيمنة الإخوانية اليمنية المدارة أميركياً ولمن لا يعرف من هو الأستاذ الترك نقول هو الأمين العام للحزب الشيوعي السوري- المكتب السياسي الذي قاد في عام 1972 انشقاقاً داخل صفوف الحزب الشيوعي السوري الذي كان بقيادة خالد بكداش آنذاك بذريعة ارتهان الحزب للاتحاد السوفييتي وتماهيه مع قرارات موسكو، كان ما أشيع آنذاك في أوساط اليسار (وهو ما كان ليشاع إلا بقرار وتفنيد من الأستاذ الترك) بأن الحزب (أي المكتب السياسي) كان على الدوام حزباً سياسياً وتنظيماً بدون وجود فكر ينظمه على مدى تاريخه، وللإيضاح نقول إن عمل أي حزب من الأحزاب يقوم على ثلاثة محاور 1- منهج فلسفي معرفي 2- خط سياسي 3- مفهوم للتنظيم وفي حالة المكتب السياسي (كما يرى الترك) فإن المحور الأول غائب ولذا فإن الخطاب السياسي هو المحدد لمسار وتوجه الحزب وفي هذا الأخير (الخطاب السياسي) يمكن التلاقي على الأهداف مع أحزاب أخرى نقيضه تماماً للإيديولوجيا التي ينسق منها هواه، ولربما كان هذا التفسير هو نفسه الذي قاده إلى التحالف مع الإخوان المسلمين في تمردهم على الدولة السورية 1977-1982.
نحن هنا لا نعني هذا اليسار فاللحم ليس كله جيداً وإلا لما وجدت النقانق وإنما مقصد ذلك اليسار المتجذر في هذه الأرض والمؤمن بأن العلمانية هي مخرجنا الوحيد، في عام 1810م شن الشيخ (سعود الكبير) هجوماً على دمشق وردته على أعقابه ومنذ سنين جاءنا متشرد لا يملك من الزاد الفكري إلا أقله وفوق ذلك تفوح منه رائحة الدم والنفط فهل يعقل أن يهزمنا بأفكاره ويهزم معنا كل هذا التراث والأفكار التي نحملها، لا خيار لنا إلا أن ننتصر أو نتلاشى.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن