من دفتر الوطن

علي سليمان والكرز

حسن م. يوسف : 

 

ثمة علاقة سرية داخلي بين الدكتور علي محمد سليمان والكرز، فكل ما له علاقة بأي منهما يذكرني بالآخر، وبما أن بيتي محاط بأشجار الكرز فمن الطبيعي أن أتذكر علياً، وخاصة في مثل هذه الأيام التي تحلو فيها ثمار الكرز.
يعلم قارئي المتابع مدى إعجابي بعلي سليمان فقد سميته «رجل الأمل». لأن مجرد التفكير به يسعدني ويعزز ثقتي بالحياة. والحق أنني أجد من الضروري الآن التذكير بمأثرة هذا الرجل، الذي أثبت بشكل باهر أن اليأس لا يليق بالإنسان، وأن الروح الشجاعة بحق، تستطيع أن تنجز التفوق مهما اشتدت عليها الآلام والصعوبات.
تخرج علي سليمان من قسم النقد في المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق، وبينما كان ينوي السفر إلى حلب لوداع أهله، قبل أيام من موعد سفره لمتابعة دراساته العليا في فرنسا، فقد عينيه كلياً في حادث التفجير الإرهابي الذي وقع في منطقة الحلبوني بدمشق عام 1997. لكن علياً استطاع بقوة حبه وبسالة روحه، أن يتغلب على وضعه المأساوي، وأن يعيد تأهيل نفسه خلال فترة قصيرة نسبياً، ليتابع دراساته العليا في جامعة أوكسفورد، وقد أظهر هناك قدرات مذهلة، فكانت رسالته لنيل الدكتوراه هي الأولى من نوعها وعنوانها «سعد اللـه ونوس من مَسْرَحَةِ العالم إلى مَسْرَحَةِ الذات»، فاستحق عليها شهادة دكتوراه في العلوم المسرحية بتقدير ممتاز.
في عام تخرجه فاز الدكتور علي سليمان بواحدة من أهم الجوائز العلمية التي تمنح في أوروبا لخريجي الجامعات من العالم الثالث. وفي حفل تَسَلُّم علي لتلك الجائزة قال الدكتور روبين أوستل، الذي أشرف على رسالة علي لنيل الدكتوراه: «إن أطروحة علي هي إنجاز كبير، غير أن ما سيبقى في ذاكرتي عنه هو أنه رجل عالي الشهامة والكرامة، ذو تصميم لا يخيب. لقد كان إشرافي عليه امتيازاً كبيراً أعتز به».
عاد علي إلى دمشق وبما أنه كان موفداً من وزارة الثقافة فقد كان من الطبيعي أن يعين أستاذاً في المعهد العالي للفنون المسرحية، لكن «أصول» بيروقراطية قانون الموظفين كانت ولا تزال تمنع تعيين الكفيف! وعندما طال نفق المراسلات بين الجهات المعنية، ذهبت لمديرة التلفزيون الصديقة ديانا جبور وتمنيت عليها أن تثير قضية تعيين علي بشكل غير مباشر، فأعادت الكرة إلى مرماي وكلفتني إنجاز فيلم عنه، وهكذا أعددت وقدمت فيلم «رسالة في الأمل»، عن علي، ولم أكرر التجربة رغم أن الهدف من الفيلم تحقق.
طوال السنوات الماضية كان علي محمد سليمان أستاذاً مُلْهِمَاً ومُلْهَمَاً في المعهد العالي للفنون المسرحية وكاتباً متميزاً في الصحافة الثقافية كما قدم برنامجاً ثقافياً في الفضائية السورية. لكن ضغط الحرب على منطقة سكناه، جعلته يقبل عرض جامعة أوكسفورد التي تخرج فيها بأن يعود إليها كأستاذ فيها، وهكذا غادرنا مؤخراً إلى بريطانيا.
في مثل هذه الأيام قبل نحو عشرة أعوام توفي أخي رفيق في حادث مؤسف، فقطع علي أكثر من ثلاثمئة كيلو متر كي يعزيني، أخذته إلى البيت وتنقلت معه بين شجيرات الكرز، كنت أسحب الأغصان العالية، بأداة خاصة، وأدنيها إليه ليقطف الكرز بنفسه، راقبته وهو يقطف ثمار الكرز كما لو أنها معجزة، كان يأكل ويضحك سعيداً كما لو أنه قد استعاد عينيه، وكنت أنا أنظر إليه ودموعي تتدحرج على خدي بصمت.
في الأسبوع الماضي ذكرني الكرز الناضج بتلك اللحظات الفريدة مع علي سليمان، فنشرت صورة لكمشة من الكرز وأخرى له مشيراً إلى أن الكرز يذكرني به، فكتب علي سليمان التعليق التالي على الصورتين:
«لن أنسى ذلك الكرز… أوصيك يا أخي حسن بتلك الأشجار فلعلها تحرس مذاق البلاد في روحي… أعانقك».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن