قضايا وآراء

حكاية البقرة الحلوب

| عبد المنعم علي عيسى 

بدأت الحكاية في شهر شباط من عام 1945 عندما التقى فرانكلين روزفلت العائد من يالطا مع عبد العزيز آل سعود على متن المدمرة الأميركية كونيسي التي كانت مرابطة في البحيرات المرة بقناة السويس، أفضى ذلك اللقاء إلى اتفاق بسيط ولكنه استطاع الصمود لأكثر من سبعة عقود متوالية لسبب بسيط أيضاً فهو (الاتفاق) كان يمثل السقف الأعلى الذي تطمح له أي قوة مهما تكن مراميها أو طموحاتها وفي الآن ذاته لم يذهب السعوديون إلى نقضه تحت أي ظرف كان.
مارست السعودية على مدار العقود السبعة الماضية دور البقرة الحلابة وهي ما انفكت تغذي الشرايين والأوردة البنكية الأميركية وعندما قوي عظمها بدأت واشنطن توكل إليها مهام اقتصادية كبرى بدءاً بإدخالها في متاهات حروب النفط للتحكم في أسعار البرميل (خفضه أو رفعه) تبعاً لما تقتضيه المصلحة الأميركية (أكد حمد بن جاسم وزير الخارجية القطري السابق في صحيفة الفانينشال تايمز البريطانية في 2/4/2016 أن دول الخليج كانت تنفذ الإملاءات الأميركية فيما يخص سياساتها النفطية) مررواً بتمويل الحرب الأميركية ضد الاتحاد السوفييتي في أفغانستان (1980-1989) ومروراً أيضاً باستقدام نصف مليون جندي أميركي جاؤوا في عام 2003 لغزو العراق وإسقاط نظام صدام حسين بعد أن كانت الرياض نفسها قد موّلت هذا الأخير بمئتي مليار دولار لمحاربة إيران (1980-1988) كما قال محمد بن نايف لمسؤول أميركي رفيع المستوى التقاه في الرياض (ويكيليكس 20/6/2015) وصولاً إلى حالة الانصهار التامة ما بعد هبوب رياح «الربيع العربي».
لم تقف الرياض عند هذه الحدود فقد أخذت أيضاً على عاتقها ضرب كل تحرك عربي من شأنه أن يشكل سداً منيعاً بوجه الهجمة الغربية والإسرائيلية على المنطقة فقد قامت مثلاً بضرب دولة الوحدة المصرية- السورية عبر شراء ذمم العديد من الضباط السوريين برئاسة العقيد عبد الكريم النحلاوي (عبد الكريم النحلاوي- برنامج شاهد على العصر- قناة الجزيرة- عام 2010) بل ذهبت إلى حدود تحريض الولايات المتحدة للدفع بإسرائيل لكي توجه لكل من مصر وسورية ضربة ساحقة وإسقاط النظام القائم في كل منهما (حمدان حمدان- عقود من الخيبات- صورة لوثيقة صادرة عن مجلس الوزراء السعودي رقم 342 تاريخ 27/12/1966).
بدأ عقد التحالف السعودي الأميركي يهتز منذ أحداث أيلول 2001 وإن كانت واشنطن قد عملت على إخفاء أحقادها التي ظلت دفينة في داخلها إلى أن جاء وقت الإعلان عنها، وعلى الرغم من ذلك فقد كان السؤال الذي أشيع في مناخات أحداث أيلول بدا وكأنه يلامس الذات الجماعية الأميركية وهو يقول: لماذا كان هناك 15 سعودياً من أصل 19 هم منفذو هجمات أيلول ومع ذلك حافظت إدارتا كل من جورج بوش الابن وباراك أوباما على السر الذي يتمثل بأن واشنطن تحمّل الرياض جزءاً كبيراً من المسؤولية في تلك الهجمات قبل أن تخرج إلى العلن تسريبات تقول إن التقرير الذي أعدته لجنة التحقيق المكلفة بتلك الأحداث قد بقي منه 28 صفحة سرية بذريعة أن ما فيها يمس الأمن القومي الأميركي وحتى عندما تم الإعلان عنها كان ذلك الإعلان جزئياً حيث بقيت فقرات كاملة من تلك الأوراق غائبة إلى الآن، كانت تلك التسريبات محكومة بحدثين مهمين أولهما هو توصل الولايات المتحدة (والغرب) إلى اتفاق نووي مع إيران (اتفاق فيينا 14/7/2015) وهو أمر له الكثير من الدلالات والمؤشرات على التوجهات المقبلة للولايات المتحدة وثانيهما القرار الأميركي بالانسحاب نحو مركز ثقل عالمي جديد هو الشرق الأقصى الذي يشهد نمواً خطيراً في قدرات التنين الأصفر الذي تقول التقارير إن اقتصاده سوف يكون هو الأول عالمياً مع مجيء العام 2020 الأمر الذي يعني انقلاباً جذرياً في الاقتصاد العالمي لن تكون مندرجاته في مصلحة واشنطن بالتأكيد.
مع ربيع العام 2016 بدأت المناخات الأميركية تستلهم أطراً عملية تجعل من توجهاتها وقائع على الأرض وقد كانت البداية العملية في مشروع القرار الذي تقدم به نائبان أميركيان (أحدهما جمهوري والآخر ديمقراطي) إلى الكونغرس الذي نظر فيه للمرة الأولى 17 أيار 2016 وهو يقضي بالسماح لأسر ضحايا أيلول بمقاضاة «السعوديين» للحصول على تعويضات تسرب أخيراً أنها ستكون خيالية وقد تصل إلى 3.3 تريليونات دولار فهي لن تقف عند تعويضات أسر الضحايا بل ستتعداها للتعويض على خسائر افتراضية مادية ومعنوية وهناك خسائر شركات الطيران بل قد تشمل تكاليف حربي العراق وأفغانستان لأنهما بالأصل نتاج لتلك الأحداث، وهذا يعني عملياً الاستيلاء تلقائياً على 740 مليار دولار هي قيمة استثمارات سعودية على الأراضي الأميركية ومعها الاستيلاء على النفط السعودي لمدة 12 سنة مقبلة بمعدل إنتاج يومي 13 مليون برميل وبسعر برميل في حدود الـ40 دولاراً.
بالتأكيد أدرك السعوديون الآن أن قرار الكونغرس المتخذ أصلاً في ردهات حكومة الظل لن تستطيع قوة أن تقف بوجهه أمام تهديد البيت الأبيض باستخدام الفيتو ضده فهو لا يمثل سوى «سكّرة» من رئيس لا يريد في نهاية حكمه أن «يسودّ» وجهه مع البقرة الحلوب، على حين تظهر التحركات السعودية لمواجهة تلك العاصفة تخبطاً فهي تريد فعل شيء إلا أنها لا تعرف ماذا يجب أن تفعل فتارة تسعى إلى تأسيس «لوبي» أميركي داعم لها يسعى إلى تحسين صورتها في الغرب وفي أميركا تحديداً وطوراً تقوم بالتلويح لهذه الأخيرة بأنها (أي السعودية) يمكن أن تكون ورقة رابحة في الإستراتيجية الأميركية الحالية في المنطقة والتي تتمثل بدمج إسرائيل فيها.
رهانات الرياض جاءت متأخرة وهي لا تملك أدنى حظوظ النجاح وما على المملكة إلا أن تتقبل قضاء اللـه وقدره… فمن يتعظ؟

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن